يُعدّ النمو اللغوي عملية تنموية تبدأ مبكراً من مرحلة تكوّن الجنين، وتستمر في الأشهر الأولى من عمر الطفل، إذ يبدأ في التمتمات والتفاعل المشترك مع الوالدين والعائلة واستخدام أول كلمة.
ويتعرض الرُّضع للأصوات واللغات من حولهم، ويكتشفون هيكل اللغة على مرّ الوقت، ويطورون عملية تعلّم اللغة.
ويمكن لمعظم الأطفال تعلّم لغتين في فترة الطفولة المبكرة، أي في أول خمس سنوات من طفولتهم، ويتعرضون في هذه الفترة إلى تأثيرات لغوية مختلفة؛ بسبب العائلة والبيئة التي يعيشون فيها.
وتعدّ اللغة أقوى أداة للتعبير عن الذات، فهذه المهارة التي تُكتسب في سنوات حياة الأطفال الأولى مرتبطة مباشرة بالثقافة التي يعيشون فيها، كما أنها أفضل أداة لهم لفهم وتقدير الثقافات المختلفة.
فوائد تعلّم الأطفال للغة الثانية
ويشير خبراء علم النفس إلى أن تعلّم الأطفال اللغة الثانية يمكن أن يساعد على تطوير مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي بشكل أفضل، كما يمكن أن يساعدهم على الشعور بالانتماء إلى ثقافات متعددة، وعلى تطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات، فضلاً عن دوره في تحسين ذاكرتهم وتركيزهم وتحقيق أداء أفضل في المدرسة.
وتعرّف المتخصصة النفسية أليف دميرار، أن التثنية التي نعرفها باللغتين، هي قدرة الأفراد على تعلم لغتين أو أكثر واستخدام لغة ثانية بشكل فعّال. وقد وُصِفَت التثنية بأنها حالة يمكن للأفراد فيها تعلم أكثر من لغة واستخدام لغة ثانية بنشاط بمستوى يقترب من اللغة الأم، إذ تكون كل من اللغتين أساسية، فإحدى اللغتين هي اللغة الأم، بينما اللغة الأخرى قريبة جداً من اللغة الأم، ولكن ليست الأساسية.
وتضيف دميرار لـTRT عربي، أنه تجري ملاحظة في التثنية أن عملية تعلّم اللغتين معاً تسهم إيجابياً في حياة الأفراد، وقد لُوحظتْ هذه المساهمات الإيجابية في مجالات متعددة، وخاصة في التنمية الاجتماعية، وفي المجال العقلي من حيث مهارات التفكير وفهم المعاني، وفي مجال التركيز ومهارات التعلم، كما تشير الأبحاث إلى أن التثنية تساهم بشكل إيجابي في نضوج مهارات القراءة ومهارات حل المشكلات لدى الأطفال.
الدور الاجتماعي للثنائية اللغوية
وتؤكد أليف دميرار أن معرفة لغتين أو أكثر ستزيد بشكل طبيعي من التفاعل الاجتماعي، ومع ذلك، تُعدّ معرفة اللغة الثانية وكيف وتحت أي ظروف جرى تعلمها مسألة مهمة.
وتضيف أنه قد يتعين على الأفراد الذين تركوا موطنهم بسبب عملية هجرة أو حرب، والذين اضطروا إلى التكيّف مع المكان الذي هاجروا إليه، أن يتعلموا لغة ثانية لتحقيق التكيّف، في مثل هذه الحالات، قد تؤثر الصدمات والحالات العاطفية سلباً في سلوك التفاعل الاجتماعي للفرد خلال مرحلة التكيّف.
وتستدرك: مع ذلك، بعد تجاوز مرحلة التكيّف، ستسهم المعرفة باللغات المتعددة بشكل إيجابي في التفاعل الاجتماعي، وبالتالي ستسهم عملية التفاعل الاجتماعي في دعم تطوير عاطفي للأفراد عبر تعلم وتجربة ثقافات جديدة.
دعم الأسرة في تعلّم اللغة
وتؤكد المتخصصة النفسية أليف دميرار أن استخدام عوامل عدّة في عملية تعلم لغة جديدة أمر مهم، وتشمل هذه العوامل التحفيز السمعي والاجتماعي والبصري، لذا يجب على الآباء أن يعرضوا أطفالهم للتحفيز السمعي عند تعلمهم لغة ثانية.
وبمعنى آخر، يتعلق الأمر بوجودهم في بيئة تتحدث اللغة المراد اكتسابها، من دون أن يكون لديهم معرفة سابقة باللغة، على سبيل المثال، عندما بدأنا في التحدث لأول مرة، كنّا نتعرض للتحفيز السمعي؛ لأننا كنا نتحدث بالفعل باللغة المحلية من دون أن نعرف بعد قواعد اللغة.
وتشير دميرار إلى أن هذا النوع من التعرّض يجلب معه التقليد والتحدث، فعند تعلّم اللغة الثانية، وخاصة في الأعمار المبكرة، يُعدّ التعرّض للغة الثانية من الناحية السمعية أمراً مهماً.
وبعد ذلك، سيساعد تقديم المعلومات المتعلقة ببنية اللغة والقواعد اللغوية، وبعد هذه المرحلة، سيساهم في تقدم العملية، ويكون الأطفال في هذه المراحل أكثر انفتاحاً للتعلم من خلال اللعب والتفاعل بما يتناسب مع تطورهم؛ لذلك يُفضل أن يجعل الآباء الذين يديرون هذه العملية تعلم اللغة الجديدة ممتعة ومرنة.
تأثيرات البيئة
يتعلّم الطفل ويتطور في جميع مجالات نموه داخل البيئة الأسرية، لذلك يمكن لتجارب الأطفال في بيئة الأسرة أن تعزز تطويرهم من الناحية التنموية، ما يسهل تجاربهم في البيئة الاجتماعية، وفق دميرار.
وتلفت إلى أن استخدام اللغة الثانية يسهم بشكل بارز في بيئة الأسرة، إذ يستخدم الآباء اللغة الثانية بشكل سائد في المنزل، في تعزيز عمليات التعلّم لدى الأطفال بشكل إيجابي، ويُعدُّ تعرّض الأطفال للغة بشكل سمعي أمراً يسهل عملية التعلّم، ويساعد في تكوين تحضير أولي للفهم اللغوي (القواعد اللغوية).
كما يُعدُّ استخدام اللغة الثانية في بيئة الأسرة مهماً لتجاوز المشاعر السلبية مثل قلة الثقة أو الشعور بالنقص، التي قد تطرأ عند تعلّم لغة جديدة، ويساهم في تنظيم هذه المشاعر لمصلحة تعزيز عملية التعلّم.
وتقول خبيرة علم النفس زينب جكركجي، إن الناس يولدون بقدرة على تعلّم لغات متعددة، وأدمغة الأطفال في سن الصغر تتطور بسرعة. مع هذا التطور، يكون تعلّم لغة ثانية في مرحلة الطفولة المبكرة أسهل من فترة بعد المراهقة.
وتوضح جكركجي في حديثها مع TRT عربي، أن الأطفال الذين يتعلمون لغتين يمتلكون مهارات وظائف عقلية وقدرات التفكير والمرونة العقلية والتفكير التجريدي ومهارات حل المشكلات والنجاح الأكاديمي وثقتهم بأنفسهم بشكل أفضل بالمقارنة مع الأطفال الذين ينشؤون بلغة واحدة.
وتضيف: إن هؤلاء الأطفال يكونون قادرين على تعلم لغة ثالثة بشكل أسهل، ويحصلون على فرص عمل أكثر، ويسهل التواصل مع ثقافات مختلفة، مشيرةً إلى أنه يصبح الأطفال الذين يبدؤون في تعلم لغة ثانية في سن مبكرة أكثر إلماماً بهذه اللغة.
وتشير جكركجي إلى دراسة أجرتها النفسانية إيستر أدي-جافا وزملاؤها حول أطفال في الفئة العمرية من 4 إلى 5 سنوات، لُوحظ أن الأطفال الذين يتربون بلغتين يظهرون إبداعات أكثر تقدماً بالمقارنة مع الأطفال الذين ينشؤون بلغة واحدة.
وفي دراسة أخرى أجرتها أخصائية وعالمة في علم الأعصاب المعرفي لورا آن بتيتو وزملاؤها، توصلوا إلى أن الأطفال الذين يتحدثون لغتين يظهرون أداءً أفضل في اختبارات القراءة مقارنة بالأطفال الآخرين.
نصائح تسهل تعلّم الأطفال
وتؤكد جكركجي أهمية الاستفادة الجيدة للأسر التي ترغب في تربية أطفالها بلغتين من فترة الطفولة لغاية سنّ المراهقة؛ لأن فترة الطفولة المبكرة هي أسرع فترة يعمل فيها الدماغ.
هناك طريقتان شائعتان لتربية الأطفال بلغتين، الأولى طريقة التربية بلغتين معاً، إذ يتعرض الطفل لكلتا اللغتين في الوقت نفسه، ابتداء من الولادة، ويمكن للعائلة تطبيق طريقة أحد الوالدين واللغة الواحدة، أي يتحدث أحد الوالدين بلغة واحدة مع الطفل بشكل ثابت، بينما يتحدث الآخر بلغة أخرى، وقد يظهر تأخر مؤقت في التحدث عند استخدام هذه الطريقة، ولكن هذا أمر طبيعي، وفق جكركجي.
وتوضح أن الطريقة الثانية، هي التربية بلغتين متتاليتين، إذ يتعلم الطفل اللغة الأم في الفترة من 0 إلى 3 سنوات في المنزل، ومن ثم يتعلم اللغة الثانية بعد سن الثالثة، ويفضل هذا الأسلوب عادةً لدى العائلات الأجنبية المقيمة خارج بلدها الأم.
وتؤكد جكركجي أن في هذه الطريقة، يجب على العائلة دعم استخدام اللغة الأم بالمنزل في أثناء تعلّم الطفل اللغة الثانية، وقد يتردد الطفل بين اللغتين لفترة، ويمكن أن يحدث تأخر في تطوّر اللغة الأم، ولكن بعد فترة يتأقلم الطفل مع هذا الوضع.
وعندما يكون الطفل قادراً على التعبير عن رغباته ومشاعره وأفكاره في لغته الأم، ويمكنه طرح الأسئلة في هذه اللغة، فيمكنه بدء تعلّم اللغة الثانية في روضة الأطفال، لكن إذا لم يكن الطفل قادراً على القيام بذلك في لغته الأم لفترة، فيمكن تأجيل تعلّم اللغة الثانية حتى يتقن اللغة الأم.