استمع إلى صوت الناي كيف يقصّ حكايته.. إنه يشكو آلام الفراق
يقول منذ قطعت من منبت الغاب والناس رجالاً ونساءً يبكون لبكائي
إنني أنشد صدراً مزّقه الفراق، حتى أشرح له ألم الاشتياق
فكل إنسان أقام بعيداً عن أصله، يظل يبحث عن زمان وصله
بهذه الكلمات يبدأ "سلطان العارفين" مولانا جلال الدين الرومي ديوانه الشهير "المثنوي"، أحد أهم وأشهر أعمال الأدب الصوفي وأكثرها تأثيراً وانتشاراً في العالم. يُطلق عليه العالم الفارسي "قرآن بهلوي" أو القرآن الفارسي، وقال عنه أدباء الغرب إنه من أعظم أشعار العالم، في عُمْقَ الفكرِ، وابتكار الصور.
فما أهمية كتاب المثنوي؟ وما سر تأثير الرومي الكبير في الثقافة الغربية دون غيره من كبار أعلام التصوف؟ ولماذا تبهر قصته مع التبريزي العالم؟
** لقاء "مرج البحرين"
لا يمكن تناول حياة جلال الدين الرومي وتأثيره في العالم دون التطرق إلى شمس الدين التبريزي، الشخصية الأكثر تأثيراً في حياة الرومي التي كانت سبباً في تحوُّله من العالم الفقيه إلى الصوفي العارف بالله الذي ينتشر مُريدوه في كل بقاع العالم منذ عدة قرون حتى اليوم.
والتبريزي كما يذكر الأفلاكي في "مناقب العارفين" هو شمس الحق والدين محمد بن علي بن مالك داد. ولد في تبريز ولا يعرف بالتحديد تاريخ ميلاده ووفاته. ويُلقب بـ"قطب الصوفية" و"سيد أولياء الله" و"إمبراطور مجانين العشق"، كما يلقبه أرباب الصوفية بـ"الطائر".
خرج من مدينته تبريز، وجاب أرجاء العالم الإسلامي لعله يجد رفيقاً ومصاحباً تواقاً إلى المعرفة فينقل إليه ما يفيض به من معارف وأسرار. واستمر في التنقل حتى وصل إلى قونية والتقى الرومي، في اللقاء الذي يطلق عليه الباحثون في حياة مولانا والطريقة المولوية اسم "مرج البحرين". بعد أن التقى الرومي شمسا أصبح شمس صاحبه ومصاحبه ومرشده. واعتزل الرومي مدرسته وتلاميذه وألقى كتبه التي كان يطالعها جانباً واعتزل العالم واكتفى بمجالسة مرشده الروحي. وكانت هذه الجلسات هي التي شكلت الفكر الصوفي للرومي وهي التي غرست بذرة المحبة والتسامح التي نبتت وأصبحت شجرة يستفيد من ثمارها ويستظل بظلالها كل باحث عن الحب والتسامح والسلام في العالم.
يقول مولانا عن شمس في إحدى الغزليات:
أنت سمائي وأنا أرضك
إني مذهول: ماذا قررت لي أن ألد؟
ماذا تعرف الغرض عن البذرة التي زرعتها أنت؟
أنت من خصبها أنت الوحيد الذي يعرف ما تحمل بداخلها.
لقد كان شمس التبريزي بالنسبة إلى الرومي بمثابة الشمس التي لولاها ما سطع ضوء القمر.
وكما كان للقاء التبريزي ومولانا أثر بالغ في رحلة تحوله الفكري، كان لفراقهما أيضاً أثر أكبر في إنتاجه الأدبي. فلولا اللقاء ما تَحوَّل الرومي من العالم الفقيه إلى الصوفي العارف بالله. ولولا الفراق ما احترق مولانا بنار الشوق التي أنضجته وما نظم أشعاره التي جابت ربوع الأرض.
ويقول الأفلاكي في "مناقب العارفين": إن فراق التبريزي لجلال الدين الرومي هو تَجلٍّ من تجليات الجلال كما كان لقاؤهما تجلياً من تجليات الجمال.
لذا فإن الحديث عن الرومي وتأثيره في الغرب هو في الوقت نفسه حديث عن التبريزي وتأثيره بطريقة غير مباشرة.
الرومي في الثقافة العربية والغربية
رغم أن آثار الرومي هي أعمال أدبية لفقيه ومتصوف مسلم، كُتبت بلغة فارسية، فإنها تجاوزت حواجز اللغة والدين والثقافة لتصل إلى شعوب مختلفة ينتمون إلى حضارات وثقافات متباينة.
في كتابه "ترجمة وشرح مثنوي جلال الدين الرومي شاعر الصوفية الأكبر» (جـ1) يرجع الدكتور محمد عبد السلام كفافي، وهو من أوائل من نقلوا أعمال الرومي للعربية في العصر الحديث، تميُّز أشعار الرومي وانتشارها في العالم دون غيره من كبار شعراء الصوفية، إلى كون الرومي شاعراً صوفيّاً، اختار التصوف سبيلاً في حياته العملية، وامتزجت حياته الفكرية بحياته العملية بصورة جعلت تصوفه مزيجاً من الفلسفة والحكمة العملية.
ويقول كفافي: "ليس تصوُّف شاعرنا من ذلك النوع السلبي الذي يدع الحياة وما فيها ويدعو إلى هجرها والفناء عنها فناءً كاملاً، ويعدّها شرّاً تورطت فيه البشرية، بل هو تصوف بنَّاء، يستمد عناصره من الإنسان، ويتعمق في بحث مشكلاته الروحية والعملية، ويحاول أن يرسم له المثل العليا في الفكر والعمل".
بيد أن اهتمام الغرب بدراسة حياة وأعمال جلال الدين الرومي يفوق بكثير اهتمام العالم الإسلامي به، ولعل ذلك سبب انتشار أعمال مولانا وتأثيره في الغرب أكثر من الشرق، حتى إن كثيرين ممن ترجموا أعمال الرومي إلى العربية نقلوها من الترجمات الإنجليزية والفرنسية لبعض المستشرقين، رغم أن أول طباعة للمثنوي (النسخة الفارسية) كانت في القاهرة عام 1835 في «مطبعة بولاق» في القاهرة، ثم تلتها طباعة الشرح الأول الوحيد باللغة العربية سنة 1870 في المطبعة نفسها.
وكان يوسف المولوي، المنتسب إلى الطريقة المولوية، هو أول من قدّم شرحاً للمثنوي بالعربية، في القرن التاسع عشر.
وكانت ذروة الاهتمام العربي بالرومي في القرن العشرين
بفضل جهود طه حسين واهتمامه بنقل آداب الأمم الإسلامية بخاصة الأدب الفارسي، إلى
العربية.
وبعد ذلك كتب الدكتور عبد الوهاب عزام عدة مقالات يعرض فيها للرومي وشعره في مجلتي الرسالة والثقافة. ثم أصدر كتابه "فصول من المثنوي" عام 1935 ترجم فيه عدة فصول من المثنوي بهدف التعريف بالرومي وأدبه. ثم ترجم تلميذه محمد عبد السلام كفافي أول مجلدين من المثنوي مع شرح لهما عام 1969 وهو من أفضل الترجمات والشروحات العربية التي قُدمت عن المثنوي حتى يومنا هذا. كما ترجم المجلدين الثالث والرابع من المثنوي إلا أنهما لم يُنشرا إلا بعد وفاته. كما نشر قبل ذلك أول كتاب شامل باللغة العربية عن جلال الدين الرومي وهو "الرومي وتصوُّفه".
وورث إبراهيم الدسوقي شتا شغف كفافي بحياة الرومي وأدبه وترجم المجلدات الستة للمثنوي عام 1996.
وكان للرومي أثر كبير ظهر مبكراً في الثقافة الهندية الإسلامية منذ القرن الرابع عشر حينما كتب نظام الدين أوليا المرشد الكبير للطريقة الچشتية، شرحاً للمثنوي.
إلا أن التأثير الأكبر للرومي في الثقافة الهندية في العصر الحديث كان بفضل الشاعر والفيلسوف الإسلامي محمد إقبال (1877-1938) الذي كان يعتبر الرومي مرشده الروحي و"أمير قافلة العشق".
تأثر الغرب بالرومي وأشعاره
كما ذكرنا آنفاً فقد بدأ اهتمام الغرب بدراسة شخصية جلال الدين الرومي وأشعاره في وقت مبكر منذ القرن الثامن عشر عبر الدبلوماسيين والرحالة الذين زاروا الإمبراطورية العثمانية وتَعرَّفوا الطريقة المولوية ورقصة السماع التي تشتهر بها الطريقة المولوية وكانوا ينقلون ما يرونه إلى بلادهم.
وكان للمستشرقين الغربيين أثر كبير في تعريف العالم
الغربي بجلال الدين الرومي ومن أهمهم المستشرق الإنجليزي رينولد نيكلسون، وهو من
أوائل من ترجموا أعمال جلال الدين الرومي حينما ترجم مختارات من ديوان "شمس
تبريز" عام 1898 كما نشر ترجمة للمثنوي في ثمانية مجلدات خلال 15 عاماً وكان
له أثر كبير في تعرُّف الثقافة الإنجليزية على أشعار مولانا، كما كان له دور كبير
في نقل أشعار مولانا للعرب، إذ إن كثيراً من الباحثين والمترجمين العرب يترجمون
أشعار مولانا من الترجمة الإنجليزية لنيكلسون.
ثم ازداد الاهتمام بأدب الرومي في أوائل القرن العشرين وقام عدد كبير من المستشرقين بدراسة وترجمة أعمال الرومي، أبرزهم المستشرق الإنجليزي آرثر جون آربري (1905-1969)، والمستشرقة الألمانية آنا ماري شيميل (1922-2003) التي ألفت كتاباً بعنوان "الشمس المنتصرة" يحوي دراسة وتحليلاً لأشعار الرومي.
كما كان للمفكرة الفرنسية "إيفا دوفيتري ميروفيتش" (1909-1999) التي عرفت الإسلام وأعلنت إسلامها من خلال معرفتها ودراستها للرومي وأشعاره، مساهمات كبيرة في نقل أشعار الرومي إلى الفرنسية بل وحتى العربية، إذ تُرجم قسم كبير من أشعار مولانا من الفرنسية إلى العربية بعد قيام ميروفيتش بنقلها من الفارسية إلى الفرنسية. وأكسبت ميروفيتش الأدب والثقافة الفرنسية أهم أعمال مولانا، وكان آخرها ترجمة المثنوي كاملاً عام 1990، وأوصت بدفنها إلى جوار ضريح الرومي في قونية. وبعد وفاتها بعدة سنوات وبالتحديد عام 2008 نُقل جثمانها من فرنسا إلى تركيا ودفنت بمقبرة "أوجلر" المقابلة لضريح مولانا في قونيا.
إلا أن التأثير الحقيقي لأشعار مولانا في الثقافة الغربية بدأ مع الشاعر والأديب الأمريكي كولمان باركس الذي أخرج الاهتمام بالرومي وأشعاره من النطاق الأكاديمي إلى المستوى الشعبي حين ألف أشعاراً مستوحاة من ترجمة المثنوي ونشرها عام 1976، وبعدها استمر اهتمام باركس بأشعار مولانا وأصدر ثمانية مجلدات عن الرومي وشعره.
ورغم أنه لا يعرف الفارسية، بل كان يستعين بصديق له لترجمتها -ثم يعيد هو صياغتها- اكتسب باركس شهرة واسعة باعتباره مترجم أشعار الرومي. وكان لصياغته أشعار الرومي بشكل قريب من طراز الشعر الأمريكي الحر عاملاً مؤثّراً في انتشارها في الأوساط الشعبية حتى أن العديد من مغني ومغنيات البوب في الولايات المتحدة في التسعينيات قاموا بغناء أشعار الرومي في حفلاتهم أشهرهم مادونا وجون بون جوفي وغولدي هاون وديمي مور. وقد ساهم ذلك أكثر في زيادة التعريف بمولانا لدى قطاعات الشعب كافة وازداد تأثيره في الثقافة الغربية.
وكان تنامي تأثير الرومي في الثقافة الغربية وحصول أعماله على لقب الأعلى مبيعاً في الولايات المتحدة خلال أعوام 2004 و2005 و2006 سبباً في احتفاء منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بجلال الدين الرومي عام 2007 بمناسبة مرور 800 عام على ميلاده وأقيمت احتفالية ضخمة في باريس إضافة إلى فاعليات مختلفة في 18 دولة حول العالم بعنوان "أفكار وآمال الرومي يمكن أن تكون جزءاً من أفكار وآمال اليونسكو".
وفي عام 2015 قام المغني الأمريكي "كريستيان مارتن المغني بفرقة "كولد بلاي" بإدراج مقتطفات من أشعار للرومي بعنوان "بيت الضيافة" في ألبوم فرقته الجديد وحققت الأغنية نجاحاً كبيراً داخل الولايات المتحدة وخارجها. وأصبحت أشعار الرومي تُطبع على الملابس والهدايا التذكارية وأشعاره تُغنَّى في الحفلات وحتى المطاعم الراقية. وفي 2016 أعلنت صحيفة الغارديان البريطانية أن الكاتب ديفيد فرانزوني، كاتب سيناريو فيلم "المصارع" أو (Gladiator) اتفق مع المنتج ستيفن جويل براون على إنتاج فيلم حول سيرة مولانا جلال الدين الرومي، وأعلن نيتهما ترشيح الممثل ليوناردو دي كابريو لتجسيد شخصية الرومي، إلا أن المشروع توقف ولم يرَ النور.
يتضح مِما سبق أن تأثير الرومي في الثقافة الغربية منتشر في الأوساط الشعبية والفنية بشكل كبير على عكس تأثيره في العالم الإسلامي -بخاصة العربي- حيث انحصر هذا التأثير في النطاق الأكاديمي.
وعن سبب اهتمام الغرب بجلال الدين الرومي وأشعاره أكثر من المتصوفين العرب يقول البروفيسور الفرنسي أريك جوفروي أستاذ الفلسفة والتصوف بجامعة ستراسبورغ وبعض الجامعات في دمشق سابقاً، إن الأجواء الروحانية الفارسية والتركية مختلفة تماماً وأكثر بساطة عن الروحانيات العربية، إضافة إلى أن تعاليم الرومي سهلة المنال في ظاهرها مقارنة بأعلام التصوف العربي أمثال ابن عربي وابن الفارض مِما يجعل دراسة الرومي وأشعاره أكثر جاذبية للغرب.
أما د. جان جيلان المتخصص في التصوف وعضو هيئة التدريس بجامعة ميديبول التركية فيقول إن بعض الأفكار التي يطرحها الرومي في أشعاره تبدو كأنها تقترب في ظاهرها من الشامانية أو الفلسفة اليونانية القديمة، وإن ذلك من ضمن أسباب اهتمام الغرب بجلال الدين الرومي لرغبتهم في تقديمه على أنه شاعر وفيلسوف فقط وإبعاده عن هويته الإسلامية التي طالما أكّدها الرومي بنفسه في أشعاره.
وأضاف أن الغرب يريد أن يلفت النظر إلى مولانا باعتبار أنه يقدم قيماً أخلاقية وإنسانية مشتركة دون الالتفات إلى التعاليم الإسلامية التي يقدمها.
وأشار إلى أنهم أغفلوا حقيقة أن الرومي قبل كل شيء عالم وفقيه مسلم يتبع المذهب الحنفي، ويقول عن نفسه: "أنا خادم القرآن وذرة تراب المصطفى".
جدير بالذكر أن الرومي بدأ كتابه المثنوي بعبارة "هذا كتاب المثنوي، وهو أصولُ أصولِ أصولِ الدين في كشف أسرار الوصول واليقين وهو فقه الله الأكبر وشرع الله الأزهر وبرهان الله الأظهر"، ليدلّل على أن المثنوي ليس فقط أشعاراً صوفية وحكماً، بل منهج كامل لفهم الدين.
ويشير الدكتور جيلان إلى أن بعض الأوساط الغربية أرادا استغلال مولانا لتأكيد فكرة "الإسلام المعتدل" وتقديمه نموذجاً له، الأمر الذي يُعَدّ إشارة ضمنية أيضاً إلى وجود إسلام آخر متطرف، وهو ما يرفضه المسلمون.
وتابع: "قد يكون للرومي نقاط التقاء مع الفلاسفة اليونان أو الثقافة الصينية القديمة، وربما تحتوي أشعاره على مواقف ذكرت بالإنجيل والتوراة لإيصال فكرة ما. ولكنه قبل كل شيء عالم وفقيه مسلم، كما أن القرآن لا ينكر التوراة والإنجيل، مؤكداً أنه لكي يكون شخص ما "مولويّاً" أو من مريدي مولانا الرومي فعليه أولاً أن يكون مسلماً، لأن الطريقة المولوية وتعاليم مولانا ليست منفصلة عن الإسلام".
وأضاف أن جلال الدين الرومي يُعَدّ "ماركة" جيدة للتعريف بالإسلام وتعاليمه وتقديم صورة صحيحة عن الإسلام وتصحيح الصورة النمطية الراسخة في أذهان البعض التي تربط بين الإسلام والعنف ونبذ الآخر، مشيراً إلى أن ديوان المثنوي الذي تُرجم لـ26 لغة ولا يزال يُلهِم كثيرين منذ أكثر من 8 قرون ويخاطب كل الإنسانية يُساعد على تقديم تلك الصورة.
ورجع جيلان عدم ظهور الاهتمام بالرومي في تركيا مبكّراً إلى القانون رقم 677 الصادر عام 1925 الذي نصّ على إلغاء كل الطرق وإغلاق الزوايا والتكايا، وإلغاء الألقاب الدينية مثل الشيخ والدرويش والإمام وغيرها من الألقاب الدينية.
ونختم باقتباس من أشهر أشعار مولانا الرومي وأكثرها انتشاراً لكونها تُعَدّ ملخَّصاً للنهج الذي يجب أن يحيا عليه الإنسان مهما كان دينه أو عرقه:
"كُن في الحُب كالشمس، كن في الصداقة والأخوَّة كالنهرِ، كُن في ستر العيوبِ كالليل، كن في التواضعِ كالتراب، كن في الغضب كالميت، وأياً كنت من الخلائق، إما أن تبدو كما أنت، وإما أن تكون كما تبدو...".