تابعنا
هرع الرئيس الأمريكي إلى نجدة الكيان الصهيوني وقدم مساعدات سخية، كما وفر لها الذخيرة والدعم العسكري والحصار البحري على غزة، وكان صوته عالياً في دعمه، ولكنه كان خافتاً بمطالبته بعدم استهداف المدنيين أو التزام إسرائيل بقواعد الحرب.

لقد أظهرت الحرب في قطاع غزة مدى السقوط القيمي والأخلاقي للغرب، والذي طالما كان يروّج لمنظومته القيمية باعتبارها عالمية، ولكن أثبتت الأحداث أنها فقط للجنس الغربي، وأنها نفعية أكثر منها أخلاقية، مع ازدواجية فاضحة للمعايير.

مع تصاعد الأحداث في غزة بعد عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، هرع زعيما أكبر دولتين في العالم الغربي، الولايات المتحدة وبريطانيا، إلى إسرائيل لنجدتها ولإظهار التعاطف والدعم "اللامحدود" للكيان الصهيوني، ويبدو أنهما في خضم المفاجأة، قد نسيا في خطابيهما كل ما بشّر به العالم الغربي من منظومة قيمية، دائماً كان يُزعم أنها الأعلى وأنها مصدر فخر الحضارة الغربية، وعلى رأسها حقوق الإنسان واحترام القانون الدولي وقرارات "الشرعية الدولية".

دعم أعمى

لقد ظهر الاثنان، بايدن وسوناك، وكأنهما زارا تل أبيب لهدف وحيد، وهو إنقاذ إسرائيل بأي ثمن، رغم كل ما ترتكبه إسرائيل من مذابح وانتهاكات لكل ما بشرت به قيم الحضارة الغربية.

لقد أكد الاثنان حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وهي المقولة التي ظل الإعلام والمسؤولون الغربيون يرددونها، في حين أنه لا يوجد في القانون الدولي ونظام ما بعد الحرب العالمية الثانية برمته ما يفيد بأن قوة الاحتلال لها الحق في الدفاع عن نفسها، بل العكس هو الصحيح، وهو أن لقوى مقاومة الاحتلال كل الحق في استعادة أرضها.

لقد غض الاثنان الطرف عن المجازر والمذابح والتهجير والحصار والتجويع والعقاب الجماعي، وارتكاب جرائم حرب بقصف المستشفيات والأطقم الطبية وسيارات الإسعاف، كما منعوا فتح المعابر بل وقصفوها لمنع نقل حتى الجرحى لتلقي العلاج، وهي جرائم حرب متكاملة الأركان حسب اتفاقية جنيف.

لقد هرع الرئيس الأمريكي إلى نجدة الكيان الصهيوني وقدم مساعدات سخية، كما وفر لها الذخيرة والدعم العسكري والحصار البحري على غزة، وكان صوته عالياً في دعمه، ولكنه كان خافتاً بمطالبته بعدم استهداف المدنيين أو التزام إسرائيل بقواعد الحرب.

وأرسل بايدن وزير خارجيته أنطوني بلينكن في جولات مكوكية عدة إلى الشرق الأوسط خلال الشهر الماضي، كانت تبدأ وتنتهي في إسرائيل، وكأن الولايات المتحدة هي فقط ناقلة رسائل من وإلى تل أبيب، فيما كان القرار النهائي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في التحكم بالمعابر، مَن وماذا يعبر ومتى تفتح، بل ورفض وجهات النظر الأمريكية فيما يتعلق بتوسيع نطاق الحرب أو أهدافها بالقضاء على حركة حماس، وكأن الذيل هو الذي بات يهز الكلب وليس العكس.

كما أن ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني، أظهر دعمه الكامل لإسرائيل أثناء زيارته إلى الأراضي المحتلة، بل إن بريطانيا باتت محلاً للسخرية من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بعدما نزل رئيس الوزراء البريطاني في فندق الملك داود في القدس، وهو الفندق ذاته الذي فجرته منظمة "الأرجون" الإرهابية الصهيونية.

واعتبرت بريطانيا هذه المنظمة منظمة إرهابية، والتي كان يتزعمها مناحم بيجين، والذي أصبح بعد ذلك رئيساً لوزراء إسرائيل، وهو خطط لذلك التفجير الذي راح ضحيته عشرات من الجنود البريطانيين، إضافة إلى عدد كبير من العرب والأجانب واليهود على حد سواء.

وكانت سخرية الناشطين من سوناك أنه كان يندد بالإرهاب في دولة قامت على الإرهاب وقتل مواطنيه أنفسهم، من أصغر مواطن حتى رئيس وزرائها التاريخي مناحم بيجين.

ازدواجية فاضحة

لقد ظل الغرب بقيادة بريطانيا والولايات المتحدة يحاضرون العالم بتفوق حضارتهم الغربية ونظام ما بعد الحرب العالمية الثانية القائم على ليبرالية مبادئ ويلسون الأربعة عشر، وعلى منع الحروب والمذابح وعلى حقوق الإنسان وحق تقرير المصير، وهي تلك المبادئ التي داستها إسرائيل في ردها على هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

جُنت آلة الحرب الإسرائيلية المدعومة غربياً وداست على الأخضر واليابس ولم تعد تفرق بين مدنيين ومسلحين، وخلّف جنونها حتى كتابة تلك السطور نحو 49 ألفاً بين شهيد وجريح ومفقود في غزة، بالإضافة إلى مليون و600 ألف نازح، وهو رقم يعادل نصف ضحايا الحرب الأوكرانية في عام كامل، تلك الحرب التي جيّش لها الغرب آلاته العسكرية والإعلامية والاقتصادية أيضاً، في دفاع مستميت عن ما وصفه بأنه "منظومته القيمية والأخلاقية".

وفيما يعمل الغرب بقيادة الولايات المتحدة على دعم إسرائيل وعرقلة حل الدولتين، فإن المجازر تستمر في الأراضي المحتلة، فيما لم يسفر مسار السلام الذي رعاه الغرب، منذ مسيرة أوسلو حتى الآن، سوى عن تقلص مضطرد لمساحة الأراضي الفلسطينية، وزيادة في عدد المستوطنات وسرقة أراضي ومنازل الفلسطينيين، الذين يُقتلون ويُذبحون على مرأى ومسمع من العالم "الحر"، والذي سقطت قياداته سقوطاً مدوياً، حيث اندلعت عدة مظاهرات في العواصم الغربية ذاتها تندد بمواقف قادتها، فيما اتهمهم البعض بأنهم أصحاب مصالح مباشرة في استمرار المذابح في الأراضي الفلسطينية.

وعي المجتمعات الغربية

وعلى ذلك الجانب المظلم من السقوط القيمي والأخلاقي لقادة الغرب ومنظومتهم القيمية، نجد جانباً آخر مضيئاً من تصاعد الوعي لدى المواطن الغربي عن القضية الفلسطينية.

وباتت مواقع التواصل الاجتماعي ساحة للجدال والنقاش حول قضايا الحقوق والقانون والدين على حد سواء، بل مثلت تلك الجماهير على منصات التواصل الاجتماعي ضغطاً على وسائل الإعلام الغربية ذاتها، وأجبرتها في كثير من الأحيان على تعديل تغطيتها التي وُصفت بأنها منحازة.

كما مثل الناشطون العرب والمسلمون ضغطاً كذلك على الرواية الغربية المضللة، واعتذر مذيعوها الذين وقعوا ضحية للتضليل الإعلامي الغربي واتباعه الأعمى لوسائل الدعاية الإسرائيلية.

وأيضاً مثّل الناشطون الأفراد غير المنتمين لمنصات إعلامية رسمية ضغطاً على الصورة النمطية التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية، مثل كلّ من باسم يوسف ورحمة زين، وكلاهما قدم صورة بديلة للإعلام الغربي عن حقيقة ما يجري على أرض الواقع في غزة.

انحياز الغرب: سقوط أخلاقي

إنّ ذلك التضليل الغربي والسقوط القيمي والأخلاقي والانحياز الفاضح تجاه إسرائيل، سيكون له تداعياته القادمة على خريطة الشرق الأوسط، فقد وقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان موقفاً حاسماً تجاه المذابح الغربية، وبدلاً من فتح آفاق التعاون في المنطقة، فإن الهمجية الإسرائيلية أدت إلى اتخاذ أنقرة موقفاً مشرفاً فيما يتعلق بمواصلة التعاون مع تل أبيب والعمل معاً نحو البناء والتنمية والمنافع المشتركة.

إن الانحياز الغربي وتشجيعه على تنفيذ إسرائيل إبادة الفلسطينيين سيمثل ضغطاً كذلك على الدول العربية التي هرعت إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، وسيؤدي ذلك إلى تغير في المواقف العربية، فقد قامت السعودية على سبيل المثال بتجميد ملف التطبيع، كما أن التصريحات التي أدلى بها وزراء خارجية 6 دول عربية في لقائهم مع بلينكن في الأردن في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني، يمثل كذلك تحولاً في موقف ما يسمى بـ"محور الاعتدال في العالم العربي".

إن لهذه الحرب ما بعدها، فهي لن تنتهي بانتهاء العمليات الإجرامية للكيان الصهيوني، أو بوقف إطلاق النار أو بتبادل الأسرى، فهذه الحرب مثلت نقطة سقوط أخلاقية للعالم الغربي، ودفعت المواطن الغربي المنصف إلى إعادة التفكير في قناعاته وفي منظوماته القيمية المدركة من خلال وسائل الإعلام الغربية، بل بات كثيرون منهم يبحث في الإسلام وفي إعادة النظر في الصور النمطية التي تغذيها وسائل الإعلام الغربية عن القضية الفلسطينية.

فضلاً عن ذلك، ظهرت أصوات محايدة ومنصفة في عدد من البرلمانات الغربية تدافع عن القيم التي قامت عليها الحضارة الغربية، ومطالبة المسؤولين بأن يتصرفوا بناءً عليها، فهذه الحرب لم تجرِ فقط على أراضي غزة، لكنها باكورة حرب قيمية عالمية وجدال أخلاقي سيبدأ عبر العالم.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً