بات اقتحام المستوطنين اليهود المسجد الأقصى طقساً يومياً، ولعنة على المقدسيين الأكثر تضرراً نفسياً ومعنوياً من هذه الاقتحامات، يكبّلهم شعورهم بالعجز تجاه مستوطنين يؤدُّون طقوسهم التلمودية ويعتدون على مقدساتهم الإسلامية بحماية شرطة الاحتلال الإسرائيلي.
ويحاول الاحتلال توظيف الأعياد اليهودية من أجل تبرير الاقتحامات، فيمنع دخول المسلمين في أثنائها، متذرعاً بالمناسبات الدينية، لفرض وجود يهودي داخل المسجد الأقصى وتأكيد هذا الوجود بأذهان المسلمين في كل مكان في العالم، وتحويله إلى صورة ذهنية قائمة وأمر واقع.
وتسبق الأعياد اليهودية إجراءات إسرائيلية مشددة تستهدف القدس والأقصى، فتحاصَر المدينة وتُحوَّل إلى ثكنة عسكرية، عبر إغلاق المحال التجارية والشوارع والطرقات، ونصب الحواجز العسكرية، بالإضافة إلى شنّ حملة اعتقالات وإبعادات عن الأقصى.
ويرتفع عدد ونسبة الاقتحامات في الأعياد والمناسبات الدينية اليهودية، مثل عيد الفصح اليهودي في شهر أبريل/نيسان، وأعياد رأس السنة العبرية من سبتمبر/أيلول حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول، بالإضافة إلى المناسبات الوطنيّة الإسرائيليّة، مثل الاحتفال بما يُسمى "يوم توحيد القدس" أو "يوم الاستقلال"، التي غالباً ما يصل عدد المستوطنين المقتحمين فيها إلى أكثر من 1600 مستوطن.
ويقتحم المستوطنون المسجد الأقصى المبارك بشرائحهم المختلفة في المجتمع الإسرائيلي، لكن أغلبهم من أبناء التيارات الدينية والآيديولوجيّة التي تؤمن ببناء "الهيكل" المزعوم، ويقتحمون بدوافعَ آيديولوجيَّة، نتيجة إيمانهم بقدسية المكان من ناحية دينية، وضرورة طرد الفلسطينيين منه، وسعياً منهم لتشكيل موطئ قدم لتنفيذ خطة مدروسة تبدأ بخطوات تصعيدية بزيادة أعداد اليهود الذين يدخلون الأقصى، مدّعين أنه "جبل الهيكل" المزعوم، ومن ثم شرعنة وجودهم ليسمح لهم بالصلاة العلنية، إلى أن يصلوا إلى مرحلة بناء الهيكل بعد هدم المساجد والمصلَّيات الفلسطينية.
بدون الهيكل يبقى وجودنا افتراضياً.. المطالبة ببناء الهيكل لن تأتي من اثنين أو ثلاثة أشخاص، إنما من جمهور كبير وعريض إلى درجة لن تستطيع معها دولة إسرائيل أن ترفض هكذا طلب
ويمكن القول إن هذه الدعوات لاقتحام المسجد الأقصى نابعة من "جماعة الهيكل" أو "جماعات المعبد" التي تدعو إلى تحصيل حقوق اليهود المزعومة، وتكثّف دعواتها في مواسم الأعياد اليهودية، بقيادة رجال دين يهود معروفين بتطرفهم ومرشدين روحيين أو تاريخيين يشاركون بالاقتحام.
وليست الدوافع الآيدولوجية وحدها وراء اقتحامات المسجد، إذ يروّج بعض الإسرائيليين فكرة "الصعود إلى جبل الهيكل"، مدّعين أنه ضمن حدود إسرائيل ومن الطبيعي زيارته وفرض سيادتهم عليه، ونزع السيادة الأردنية عنه، من بينهم وزير الزراعة الإسرائيلي المتطرف أوري إرئيل، وعضو الكنيست السابق من حزب الليكود يهودا غليك، اللذان اقتحما المسجد الثلاثاء برفقة عشرات المستوطنين الإسرائيليين.
230 متطرفاً اقتحموا المسجد الأقصى اليوم في حراسة الشرطة الإسرائيلية، من بينهم وزير الزراعة أوري إرئيل وعضو الكنيست السابق من حزب الليكود يهودا غليك، بمناسبة يوم الغفران اليهودي الذي يبدأ مساء الثلاثاء ويستمر حتى الأربعاء
توظيف الأعياد لتشجيع الاقتحامات
يقول المحامي المختص في شؤون القدس والأقصى خالد زبارقة لـTRT عربي، إن "الاحتلال الإسرائيلي يسعى منذ فترة لفرض هوية دينية يهودية على المسجد الأقصى، ويستغلّ المناسبات الدينية والأعياد لتكثيف اقتحاماته ليضفي هذه الهُويَّة، لذلك أمّن الاحتلال اقتحامات المستوطنين اليوم بكتائب عسكرية مختلفة من الشرطة والمخابرات وحرس حدود والجيش".
ويضيف "عند الحديث عن المسجد الأقصى يجب أن نتذكر مساعي الاحتلال لبناء الهيكل المزعوم وهدم المسجد، وهو الهدف النهائي والأساسي، ومحاولاته تسويق المسجد على أنه مكان ديني يهودي ويعرفه بأنه (جبل الهيكل) ويستخدم الخطاب الديني المفعم بالمفردات الدينية التي يستخدمها المتطرفون والمؤسسة الإسرائيلية الرسمية".
ويتابع "ليس فقط اليهود المتطرفون وراء الاقتحامات، لقد اتضحت الصورة اليوم أكثر وتَبيَّن أن المؤسسة الإسرائيلية ومن خلفها المشروع الصهيوني العالمي هم الذين يدفعون باتجاه اقتحامات المسجد، والسياحة التي تدخل عن طريق باب المغاربة الذي يسيطر عليه الاحتلال هي سياحة دينية، وهي جزء من الاقتحامات".
ويرى زبارقة أن الوزراء وأعضاء الكنيست ورئيس الحكومة يدعمون الاقتحامات بتصريحاتهم، محاولين إعطاء الشارع الإسرائيلي شعوراً بالأمان من أجل تشجيعه على اقتحام المسجد، "بما يدل على أن المؤسسة الرسمية بكل أذرعها هي التي تشجّع الاقتحامات، وقد أصبحوا يروّجون الأمر خلال حملاتهم ودعاياتهم الانتخابية".
الرباط لمواجهة الاقتحام
كثفت الجماعات اليهودية المتطرفة دعواتها لتنفيذ اقتحامات للمسجد الأقصى وعممت عبر مواقعها الإعلامية وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي التابعة لها الدعوات، مؤكّدة التنسيق الكامل مع شرطة الاحتلال بالقدس لتسهيل الاقتحامات.
ودعا اتحاد "منظمات الهيكل" المزعوم إلى اقتحامات واسعة كبيرة لليهود خلال أيام عيد "رأس السنة العبرية"، وأكّد ضرورة أن تكون الاقتحامات جماعية وعائلية بأعداد كبيرة.
وتعهدت "منظمات الهيكل" لأنصارها بتأمين وجبات وحلوى للمقتحمين عند باب المغاربة، وستقام خيمة للخدمات عند مدخل جسر باب المغاربة، وقد أعدّت كل جماعة برامج فرعية لأعضائها داخل الأقصى خلال اقتحاماتهم التي ستشمل الفترتين الصباحية والمسائية.
الاقتحامات التي ينفذها المستوطنون في المسجد الأقصى تنمّ عن تطور في طبيعة هذه الاقتحامات، إذ باتت الشروحات تُقدَّم لهم بصوت مرتفع، ويؤدِّي بعضهم الصلوات التلمودية تحت حماية سلاح الشرطة الإسرائيلية والقوات الخاصة التي ترافقهم طوال المسار
في المقابل دعت اللجان الشعبية الفلسطينية للدفاع عن الأقصى، إلى شد الرحال إليه تزامناً مع الأعياد اليهودية، قائلة في بيانٍ لها "سنبقى الأوفياء لمسجدنا ندافع عنه في وجه غطرسة المحتلّ وقطعان مستوطنيه، وستبقى بوصلتنا نحو القدس والأقصى، لن نخذله ولن نتراجع حتى التحرير القريب".
وأكّدت اللجان أن الوجود الدائم أمام المستوطنين خلال الأيام القادمة سيُفشِل مخططاتهم الرامية إلى تقسيمه زمانيّاً ومكانيّاً.
وأصدر مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية بالإضافة إلى الهيئة الإسلامية العليا ودار الإفتاء ودائرة قاضي القضاة ودائرة أوقاف القدس وشؤون المسجد الأقصى، بياناً مشترَكاً مع انطلاق موسم الأعياد اليهودية، وجاء فيه "لا يمكن القبول بمثل هذه الإجراءات التعسفية تحت ذرائع المناسبات والأعياد التي لن تصبح حدثاً عابراً في أي وقت من الأيام، فمهما بلغت ممارسات الاحتلال ومن خلفه مجموعات المتطرفين من الغطرسة، فهذه المجموعات المقتحمة بقوة السلاح لن تصبح جزءاً من المشهد العامّ في المسجد الأقصى الذي كان وما زال وسيبقى مسجداً إسلاميّاً خالصاً للمسلمين وحدهم بكل ساحاته وطرقاته ومصلياته فوق الأرض وتحتها وفي فضائه المبارك".
ولم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بتأمين حراسة للمستوطنين في أثناء اقتحامهم المسجد الأقصى، بل سلّم عدداً من المقدسيين أوامر إبعاد عن المسجد ومحيطه، بهدف إتاحة أجواء هادئة للمتطرفين المقتحمين للأقصى، خلال أعيادهم.
وتعتبر المعلّمتان خديجة خويص وهنادي الحلواني من أكثر المقدسيين تضرُّراً من سياسة الإبعاد التي تطورت لترقى إلى المنع من السفر خارج البلاد، إذ كتبت هنادي على صفحتها في فيسبوك قائلة "أصدر ما يُدعَى عضو الكنيست أريه مخلوف درعي، قراراً بمنعنا أنا وأختي خديجة خويص من الخروج خارج البلاد لمدة شهر قابل للتمديد، بحجة أن سفرنا خارج البلاد يشكّل خطراً على أمن البلاد".
وقد أثبت الرباط داخل المسجد الأقصى تاريخيّاً فائدته، فقد بدأ سابقاً بإعلان النفير العام، حيث ينادَى عبر سماعات الجوامع من أجل حشد أكبر عدد ممكن من المقدسيين داخل الأقصى، وكانت الحركة الإسلامية تسيّر حافلات تُدعَى "البيارق" لنقل المصلين من مدن وقرى الداخل في مواسم التصعيد، لعرقلة جهود ومخططات المستوطنين، ثم أسّسَت الحركة مشروع "إحياء مصاطب العلم في المسجد الأقصى"، ليأخذ الرباط شكلاً أكثر تنظيمياً، قبل أن تحظرها السلطات الإسرائيلية.