ما إن أعلنت حركة حماس، مساء الثلاثاء، اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي صالح العاروري واثنين من قادة كتائب القسام في قصف بمُسيّرة إسرائيلية استهدف مكتب الحركة بالضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، حتى خرجت المظاهرات المنددة والغاضبة حيال اغتياله بدءاً من مسقط رأسه قرية عارورة شمال مدينة رام الله، ثم امتدت لتشمل المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية كافة ومخيمات اللجوء في الخارج.
وانفجر الغضب الشعبي وخرج الفلسطينيون إلى الشوارع حزناً على رحيل الشيخ صالح العاروري، أحد أهم قادة المقاومة الذي مثّل وعكس خلال سنوات نضاله وجهة نظر الفلسطينيين في كيفية التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، واختصرها في مقابلة تلفزيونية قبل أسابيع من اغتياله، أكد فيها أنه "لا تفاوض مع الاحتلال"، في ظل العدوان المستمر على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي والذي خلّف مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين، وهو موقف حركة حماس الرسمي الرافض لأي صفقة تبادل للأسرى حتى انتهاء الحرب.
مهندس وحدة الساحات
ويعتبر صالح العاروري من أبرز الشخصيات التي جمعت بين العمل العسكري والسياسي، ودعت للوحدة الوطنية الفلسطينية فعلاً وقولاً على المستوى السياسي. وعلى الصعيد الميداني والعسكري، كان العاروري "مهندس وحدة الساحات"، وهي فكرة خرجت لمقاومة الاحتلال من ساحات عدة فرّقتها إسرائيل جغرافيا، وجمعتها ردود المقاومة التي انطلقت للرد على جرائمها من القدس والضفة الغربية وغزة وأراضي الـ48 المحتلة.
واتسعت الفكرة لتشمل معركة "سيف القدس" في مايو/أيار 2021 وجولة القصف الصاروخي الذي نفّذته المقاومة من ساحات غزّة ولبنان وسوريا، رداً على جرائم الاحتلال في المسجد الأقصى.
ولم تقتصر مخاوف إسرائيل من العاروري على فكرة وحدة ساحات المقاومة في مواجهتها، بل أزعجها القائد الذي اعتبرته محركاً أساسياً للضفة الغربية ومنظماً للخلايا ولعمليات المقاومة فيها، بل كانت لمخاوف إسرائيل أذرع كثيرة، فهو رجل المصالحة الفلسطينية الذي نجح في الاجتماع مع قادة حركة فتح لبحث مسألة إنهاء الانقسام، وهو القائد الذي شارك في هندسة صفقة شاليط، بالإضافة إلى امتلاكه علاقات واسعة على المستوى السياسي والعسكري في إيران ومع قادة حزب الله اللبناني، كما كان من بين الذين دعوا "لاستغلال كل جبهة ممكنة في محيط فلسطين".
فمَن ذلك القائد الذي كان من أوائل الذين أسسوا كتائب “الشهيد عز الدين القسّام” في الضفّة الغربية، وعمل داخل فلسطين وخارجها، واستغل وجوده في سجون الاحتلال لتمكين عمل كتائب القسام في الضفة الغربية، وجمع بين العمل العسكري والسياسي؟
تأسيس كتائب القسام وتمكين حماس بالضفة
في قرية عارورة شمال غربيّ مدينة رام الله، وُلد صالح محمد سليمان خصيب العاروري عام 1966، لعائلةٍ من الفلاحين، وبدأ بالتردد على مسجد بلدته منذ طفولته، وتربى تربية دينية نابعة من عائلته المحافظة، وتأثراً بوالده الذي كان يحفظ القرآن الكريم، وعن طريق إمام مسجد القرية الشيخ سعيد معطان، الذي تعود أصوله إلى قرية برقة شرق رام الله ارتبط العاروري بجماعة "الإخوان المسلمين"، وذلك قبل تأسيس حركة حماس.
ومن عارورة إلى الخليل، درس العاروري في جامعة المدينة، والتحق بكلية الشريعة، وكان من أبرز نشطاء الكتلة الإسلامية ثم أصبح مسؤولها، بعدما تشكّلت قبل سنوات قليلة من التحاقه بالجامعة عن طريق عددٍ من نشطاء الإخوان المسلمين.
ومع اندلاع الانتفاضة الأولى في ديسمبر/كانون الأول عام 1987، وتأسيس حركة حماس، انتقل العاروري من نشاطات العمل الإسلامي إلى المشاركة في تأسيس الحركة في منطقة قرى شمال رام الله، بدءاً من قريته عارورة التي أصبحت مركزاً لنشاط الحركة، وانتقالاً إلى قرى رام الله التي لم يكن العمل فيها على تعزيز حضور حركة حماس سهلاً، لكنه استطاع مع أشخاص آخرين تمكين وجود الحركة، من بينهم الشهيد عبد الرحمن العاروري، أحد قادة "كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام" الذي تولّى مسؤولية تأمين وتوفير الدعم اللوجستي للمطاردَين يحيى عياش ومحمد الضيف وآخرين، والشهيد أمجد حسن من قرية دير السودان الذي يعتبر أوّل شهيدٍ للحركة في رام الله.
18 عاماً في سجون الاحتلال.. دخل شاباً وخرج قائداً
في عام 1990 تعرّض العاروري لأوّل اعتقالٍ إداري (دون تهمة مع ملف سري) لمدة 4 شهور، تعرَّف خلالها الشيخ عادل عوض الله وإبراهيم حامد اللذين شغلا وقتها مناصب قيادية في الحركة، وأصبحا لاحقاً أبرز قادة التنظيم العسكريّ للحركة في الضفّة، واتفق الثلاثة على بناء تنظيمٍ عسكريّ في الضفّة، سبق أن جرى كشفه بعد محاولات عديدة، بسبب الاعتقالات المتكررة لأفراده، ثم تشكلت مجموعات عدة بالضفة الغربية والقدس، أبرزها تلك التي شكّلها الشهيد يحيى عياش والأسير المحرر زاهر جبارين في شمال الضفة الغربية.
لاحقاً، نجح العاروري بتنظيم العمل العسكري وشكّل مجموعات وزودها بالسلاح، ونفذت عمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي منها عملية محمد بشارات في "التلّة الفرنسيّة" في القدس عام 1991، التي أسفرت عن مقتل جنديّ إسرائيلي.
وبالتزامن مع ذلك فتح العاروري خطوط اتصال مع قيادة حركة حماس بالخارج، مثل عضو المكتب السياسي للحركة موسى أبو مرزوق الذي كان بالولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، بالإضافة إلى التعاون مع المطاردين الذين جاؤوا من غزة إلى الضفة كعماد عقل ومحمد الضيف وبشير حماد وصلاح جاد الله وطلال نصار، لكن الأمر لم يستمر طويلاً، إذا اعتقلت قوات الاحتلال العاروري عام 1992، بعد تكشف الخلايا العسكريّة، وتعرّض لتحقيقٍ قاسٍ استمرّ شهوراً عدة، في مركز "المسكوبية" في القدس وفي سجن طولكرم المركزي، لكنه لم يعترف عن مسؤوليته عن العمليّات، وحُكم بالسجن خمس سنوات.
وخلال فترة اعتقاله برز العاروري كقيادي بين الأسرى، وحافظ على علاقات وثيقة مع الفصائل الفلسطينية، ونتيجة اعترافات جديدة عليه، تعرض لجولة تحقيق جديدة وقاسية لعدة شهور وحُكم لخمس سنوات أخرى، أضيف إليها خمس سنوات من الاعتقال الإداري لاحقاً بعد انتهاء حكمه، تخللها عزله مرات عدة في زنازين العزل الانفراديّ.
وخرج العاروري من سجون الاحتلال بعد 15 عاماً من الاعتقال عام 2007، في الفترة التي فازت فيها حركة حماس في الانتخابات التشريعيّة الفلسطينية، وعُرف بدعمه لترشح حماس للانتخابات، وبعد فترة قصيرة حدث الانقسام بين حركتي حماس وفتح في قطاع غزة، في يونيو/حزيران 2007، وامتد إلى الضفة وعاد التضييق على الحركة من قبل السلطة الفلسطينية والهجوم على مؤسساتها، وهو الأمر الذي أعاد العاروري إلى العمل الميداني، وعلى إثر ذلك اعتقله الاحتلال الإسرائيلي مرة أخرى اعتقالاً إدارياً امتد لثلاث سنوات، ليكمل 18 عاماً في سجون الاحتلال بشكل متفرق.
هندسة صفقة شاليط من داخل السجون
أسرت حركة حماس الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، خلال وجود العاروري في سجون الاحتلال، وهو ما ساعد بمساهمته في إنجاز صفقة تبادل، نجمت بعد عقد مفاوضات مع قادة حماس في السجون، من بينهم يحيى السنوار وعبد الخالق النتشة ومحمد جمال النتشة ومحمد أبو طير وتوفيق أبو نعيم وعزيز دويك والعاروي، ثم عرض الاحتلال على الأسرى اللقاء بممثلي المخابرات المصريّة، لكن المفاوضات توقفت لأسباب سياسية إسرائيلية، إذ سقطت حكومة إيهود أولمرت ووصل بنيامين نتنياهو إلى الحكم.
وفي عام 2010، بعدما أفرج الاحتلال عن العاروري، ارتكب الاحتلال إحدى أكبر حماقاته التي ندم عليها فيما بعد، بإبعاد العاروري خارج فلسطين لمدة 3 سنوات، بهدف تأديبه، ليستغل الأخير الفرصة من أجل ترتيب المشهد السياسي والعسكري الفلسطيني، إذ توجه إلى سوريا حيث كانت قيادة الحركة هناك، وبقي فيها 3 سنوات وغادرها بعد اندلاع الثورة السورية، ثم توجه إلى تركيا، وبدأ بالمشاركة مع الوفد المفاوض في اللقاءات مع الوسيط المصريّ، من أجل إتمام صفقة "وفاء الأحرار" حتى تمت عام 2011، وتحرّر بموجبها أكثر من ألف أسيرٍ فلسطيني، وعاش في دول عدة كان آخرها لبنان.
ومنذ ذلك الوقت، عمل صالح العاروري على تشكيل خلايا للمقاومة في الضفة الغربية، بعضها نجح في تنفيذ عمليات، مثل عملية اختطاف خلية لثلاثة مستوطنين قرب الخليل بعد قتلهم عام 2014، وهي العملية التي أعلن العاروري عن مسؤوليته عنها خلال إحدى مؤتمراته في تركيا، وبذلك حاول إعادة ترميم الجناح العسكري للحركة بالضفة الغربية.
رجل الوحدة الوطنية
أصبح صالح العاروري عام 2010 عضواً بالمكتب السياسي لحركة حماس، وفي عام 2017 تقلد منصب نائب رئيس حركة حماس، بعد فوزه بانتخابات المكتب السياسيّ للحركة وتوليه مسؤولية إقليم الضفّة، وشارك بالعام نفسه في التوقيع على اتفاق مصالحة آخر مع حركة فتح في القاهرة، لتخفيف الضغط على سكّان قطاع غزة المحاصر، لكن الاتفاق لم ينجح.
وفي عام 2018 ترأس العاروري وفداً من حركة حماس تَكَوّن من ماهر صلاح قائد الحركة خارج فلسطين، وأعضاء المكتب السياسي موسى دودين وموسى أبو مرزوق وعزت الرشق وحسام بدران، لبحث ملف المصالحة، في العاصمة المصرية القاهرة، وضم وفد حركة فتح أعضاء اللجنة المركزية عزام الأحمد وروحي فتوح والوزير حسين الشيخ، ورئيس جهاز المخابرات العامة في رام الله ماجد فراج.
وفي عام 2020، جرت اتصالات بين العاروري وعضو اللجنة المركزيّة لحركة فتح، جبريل الرجوب، وعقدا لقاءً صحفياً مشتركاً ثمّ اجتماعات بين مختلف القيادات الفلسطينيّة، وصولاً إلى الاتفاق على موعد لعقد الانتخابات الشاملة، قبل أن يقرّر محمود عباس إلغاءها تحت عنوان "التأجيل بسبب رفض الاحتلال إجراءها في القدس".
طوفان الأقصى وتوقّع اغتياله
ما إن انطلقت صواريخ المقاومة الفلسطينية صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقبل أن يعلن القائد العام لكتائب عز الدين القسام محمد الضيف عن بدء عملية طوفان الأقصى، حتى تبادر إلى أذهان الجميع أن المقاومة تقصف إسرائيل رداً على اغتيال الأخيرة شخصية قيادية من كوادرها بالخارج، وكان العاروري أول من خطر على بال الجميع، إذ لم تمر أشهر قصيرة على ظهور الأخير بالبدلة العسكرية وأمامه بندقية، بعد تهديد الاحتلال باغتياله.
هذا الأمر تبادر أيضاً إلى ذهن عائلته بالضفة الغربية، إذ صرحت شقيقته الثلاثاء، بعد إعلان اغتياله، بأنها أجرت اتصالاً معه بعد خروج شائعة تفيد باغتياله، صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو ما نفاه رده عليها.
وفي مقابلات سابقة معه، قال العاروري: "إن دماءنا وأرواحنا ليست أغلى ولا أعز من أي شهيد، ولا يجوز لأم أي شهيد أن تشعر أن دماء القائد أعز وأغلى من دماء ابنها"، مضيفاً أن "الشهيد الذي سبقنا بيوم أفضل منا"، وهو ما يدل على زهده بالحياة وتوقع استهدافه في أي وقت.
وفي هذا الصدد أكد العاروري في لقاء سابق مع قناة "الميادين" أن تكرار إسرائيل التهديد باغتياله لن يترك أثراً أو تغييراً ولن يغير قناعاته ومساره قيد أنملة. وأضاف: "نحن مؤمنون، ونتمنى أن تُختَتم حياتنا بالشهادة التي نعتز بها"، مشيراً إلى أن الشهادة هي الفوز العظيم في نظر قادة المقاومة.
وشدد العاروري في حواره على أن قادة المقاومة "جزء من الشعب الفلسطيني ولا يتباينون عن كل أبناء الشعب"، مُذكّراً بأن "كل فصائل المقاومة الفلسطينية قدمت قادة شهداء من كل المستويات، ومؤكداً أن هذا "لا يعدّ غريباً على حماس ومختلف حركات المقاومة".
وعن موقفة من عملية طوفان الأقصى، قال العاروري، في لقاء سابق مع قناة الجزيرة قبل استشهاده: "إن الاحتلال لن يكسر إرادة شعبنا وسيفشل في السيطرة على قطاع غزة". موكداً أنه لا تفاوض مع جيش الاحتلال بشأن تبادل الأسرى حتى انتهاء العدوان الإسرائيلي على القطاع.
وأكد صالح العاروري أن عملية طوفان الأقصى جاءت استباقاً لهجوم كانت تنوي إسرائيل شنه على قطاع غزة فور انتهاء الأعياد اليهودية، وقال: "إن الخطة الدفاعية للعملية أقوى من الخطة الهجومية التي أذهلت إسرائيل وفاجأت العالم". وشدد العاروري على أن التعليمات كانت منذ البداية لدى مقاتلي القسام بالتزام تعليمات الدين الإسلامي في الحروب، وهي عدم قتل المدنيين والنساء والأطفال والشيوخ، وعدم المس بمصالح الناس المدنية، والاكتفاء فقط بمقاتلة الجنود والمسلحين.
ووضح أسباب بعض الفوضى التي حصلت وقتها، بأن بعض أهالي القطاع عندما سمعوا بانهيار الحدود مع غلاف غزة سارعوا لدخول الغلاف، في حين اضطر بعض مقاتلي القسام للاشتباك مع بعض حراس الأمن ومسلحين في المستوطنات ما أدى إلى سقوط قتلى بين المدنيين.
وأكد أن حركة حماس "لا يمكن أن تمس بالمدنيين أو بالأسرى وتتصرف وفق قوانين الحرب الدولية"، وأن الغرب الذي يتهم المقاومة الفلسطينية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، يتجاهل أن الحرب التي شنتها إسرائيل ضدهم قامت على أساس استهداف المدنيين، مشدداً على أن الفلسطينيين يقاتلون كي يقر العالم بحقهم في الحياة على أراضي دولتهم كبقية شعوب العالم.
واغتيل العاروري بضربة جوية بثلاثة صواريخ من مُسيّرة إسرائيلية، مساء الثلاثاء الثاني من يناير/كانون الثاني 2024 في بيروت، مع 7 شهداء و11 جريحاً، وكان برفقته القياديان في كتائب القسام، الجناح المسلح للحركة، سمير فندي وعزام الأقرع، وآخرون هم: محمود زكي شاهين، ومحمد الريس، ومحمد بشاشة، وأحمد حمود.