أثار عرض البرومو الترويجي للمسلسل التاريخي المنتج إماراتياً "ممالك النار" حالة من الجدل والترقب أيضاً لردود الفعل التي ستظهر عقب عرض حلقاته.
ويتناول المسلسل فترة سقوط دولة المماليك على يد الدولة العثمانية بقيادة السلطان سليم الأول، ويسلط الضوء على حياة السلطان المملوكي طومان باي الذي انهزم أمام السلطان العثماني سليم الأول في معركة الريدانية التي جرت في مصر عام 151م، 922هـ.
ورأى البعض في توقيت عرض المسلسل 17 نوفمبر/تشرين الثاني بالتزامن مع عرض المسلسل التركي "عثمان المؤسس" الذي سيُعرض 20 نوفمبر، محاولة لمنافسة الدراما التاريخية التركية ومحاولة لتقديم بديل ناطق بالعربية لعله يحقق نجاح "قيامة أرطغرل" في الوطن العربي، ويحد من تأثير القوة الناعمة التركية.
إلا أن مسلسل "ممالك النار" رغم ضخامة الإنتاج (40 مليون دولار) بعيد كل البعد عن منافسة الدراما التاريخية التركية التي تتميز بـ"النَّفَس الطويل" كما تهتم بالتركيز على الجانب النفسي والأخلاقي للشخصيات إضافة إلى الإنتاج الضخم أيضاً، بينما "ممالك النار" عمل صغير يتكون من 14 حلقة فقط ومن الواضح أنه سيعتمد على السرد التاريخي فقط بما يتناسب مع الأيديولوجيا التي يتبناها.
ورأى متابعون أنه على الرغم من عدم نشر حلقات المسلسل حتى الآن وأن مدة البرومو الترويجي الذي نُشر لم تتجاوز دقيقتين إلا أن الرسالة التي يرغب المسلسل في تقديمها واضحة للغاية ولا تحتاج لتحليل عميق لفهمها؛ ألا وهي مواصلة الهجوم على تركيا من خلال تشويه تاريخ الدولة العثمانية.
ويعد المسلسل نقطة تحول مهمة بالتوجه الإماراتي في الهجوم على تركيا وتشويه تاريخها، إذ انتقلت من مجرد استخدام اللجان الإلكترونية على شبكات التواصل الاجتماعي إلى محاولة توظيف الفن والدراما لخدمة الغرض ذاته، كونهما أكثر قدرة على الوصول إلى كل شرائح المجتمع.
ولعل عرض قناة MBC المسلسل بعد أن كان من المقرر عرضه حصرياً على منصة "نتفليكس" مسبقة الدفع، دليل على الرغبة في إيصال تلك الأيديولوجيا إلى أكبر عدد ممكن من الجماهير.
يوضح أوغوزهان دورسون عضو هيئة التدريس بجامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول قسم التاريخ، وطالب الدكتوراه حول "التاريخ والسينما" أن التوتر في السنوات الأخيرة بين تركيا وبين ما أطلق عليه "تحالف الكرة الزجاجية" (الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر) بسبب عدة ملفات كان سبباً في إيقاف قناة MBC السعودية عرض المسلسلات التركية في مارس 2018 ثم شنها هجوماً على المسلسلات التركية ولا سيما التاريخية.
وأضاف دورسون أن اللجان الإلكترونية السعودية كثفت جهودها خلال الفترة الأخيرة في موضوع تشويه صورة الدولة العثمانية عبر وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أن التلفزيون أيضاً يشكل إحدى جبهات "الحرب الهجينة" لما له من قدرة على التأثير على قطاع عريض من الجماهير وإحداث تغيير ثقافي في المجتمعات.
مسلسل ممالك النار على قناة MBC السعودية أحد المحاولات لسد الفراغ الناتج عن غياب الدراما التركية ولاستكمال حملة التشويه والشيطنة للدولة العثمانية
وأشار إلى أن تنامي "القوة الناعمة" التركية في المنطقة العربية مستفيدة من الانتشار الكبير للمسلسلات التركية أزعج بعض الدول في منطقة الخليج، مما تسبب أيضاً في شن حرب على المسلسلات التركية ومنع عرضها على بعض القنوات، ومن ثم دفعها إلى إيجاد بديل لسد الفراغ الناتج بعد غياب الدراما التركية. وتابع "مسلسل ممالك النار على قناة MBC السعودية أحد تلك المحاولات لسد هذا الفراغ ولاستكمال حملة التشوية والشيطنة للدولة العثمانية."
أما أحمد تكين عضو هيئة التدريس بقسم التاريخ جامعة إسطنبول فيرى أن "الخلافات السياسية الأخيرة بين تركيا وبعض الدول العربية جعلت تلك الدول تلجأ لمحاولات شيطنة تركيا وتشويه صورتها وتاريخها وتشكيل صورة مخالفة للواقع في أذهان شعوب تلك الدول"، وبالطبع فإن التلفزيون والسينما من أهم الوسائل التي يمكنها من القيام بذلك.
وأضاف أن إظهار السلطان العثماني سليم الأول بصورة المحتل وإظهار الدولة العثمانية في صورة الدولة المعتدية من خلال مسلسل "ممالك النار" هو جزء من هذه المحاولات الرامية لتشوية صورة تركيا الحالية عن طريق القدح في تاريخها وتكوين أحكام مسبقة في أذهان الشعوب العربية، بحق المواطنين الأتراك من خلال إظهار أجدادهم في صورة المحتلين والغزاة.
وأشار تكين إلى أن صُنّاع المسلسل يدركون حقيقة أن أغلب مشاهدي الدراما التلفزيونية لا يحاولون تكلف عناء البحث عن مصداقية ما يشاهدونه من معلومات، ولا يفكرون في البحث عن مصادر تلك المعلومات، ولذلك ليس من الصعب عليهم تقديم أي معلومات خاطئة أو كاذبة في المسلسل بما يتماشى مع الرسالة التي يرغبون في إيصالها للمشاهد.
وأضاف أن هناك العديد من الأعمال والدراسات التي تتحدث عن شخصية السلطان سليم وفتوحاته وفترة حكمه يمكن للمشاهد الرجوع إليها لمعرفة الحقيقة إذا ما أراد ألا يصبح "مجرد فئة مستهدفة" لصناع مسلسل ليس غرضهم الوحيد هو تقديم عمل فني بل خدمة أجندة سياسية.
بمجرد عرض البرومو الترويجي للمسلسل بدا واضحاً جداً أسلوب النكاية السياسية والغرض الرئيسي الذي أراده صُنّاع المسلسل، وهي رسالة يدركها المشاهد بسهولة حتى قبل مشاهدته البرومو.
ونشر ياسر حارب صاحب فكرة المسلسل ومدير شركة جينوميديا المنتجة له الفيديو الترويجي للمسلسل على حسابه بتويتر معلقاً عليه بقوله "السلطان المملوكي طومان باي في القاهرة، في مواجهة المحتل العثماني سليم" مُرتكباً مغالطة منهجية تلخص الغرض من إنتاج المسلسل؛ إذ لم يترك للمشاهد الفرصة لقراءة المقدمات والأدلة حتى تقوده للحكم، بل أصدره مسبقاً.
ولم تتجاوز مدة عرض الفيديو الترويجي للمسلسل دقيقتين إلا أنه حمل رسائل كثيرة تفضح النية وراء إنتاجه وتجعل من السهل على المشاهد التنبؤ بالطريقة التي سيتم تناول الأحداث بها خلال الحلقات، حيث تظهر على الشاشة عبارة "قانون دموي حكم إمبراطورية" في محاولة لإيصال فكرة أن الدولة العثمانية كانت قائمة على القتل وارتكاب المجازر وإبادة معارضيها، وهو الأمر الذي تنفيه كل المصادر التاريخية.
كما تشير العبارة إلى تقليد كان متبعاً في فترات من مراحل الدولة العثمانية لمنع حدوث انقسامات وصراعات داخل الدولة تؤدي لإراقة الدماء، لا يتسع المجال هنا للحديث عنه.
كذلك ينتهي الفيديو بجملة على لسان طومان باي يقول فيها "يا أهل مصر، مقاومتكم انتصار" لإيصال فكرة أن الدولة العثمانية جاءت إلى مصر لاحتلالها واستعمارها، وأن الشعب المصري كان يحارب لمقاومة ذلك، وتناسى صُناع المسلسل أن الدولة المملوكية هي أيضاً دولة تركية أسسها المماليك الأتراك والشراكسة وأن الصراع في الأساس هو تركي- تركي تعود جذوره لفترات متقدمة جداً على تلك الحقبة، ولم يصطف الشعب المصري لمقاومة العثمانيين مثلما فعل أثناء الحملات الصليبية في بداية عهد دولة المماليك.
من المغالطات المنهجية والمنطقية الأخرى التي وقع فيها صُناع المسلسل تعمد انتقاء المصادر التاريخية التي تخدم آراءهم وأجندتهم. وهي مغالطة منهجية ومنطقية تعرف باسم "الانحياز التأكيدي Confirmation bias" وتعني الميل للبحث عن، وتفسير، وانتقاء المعلومات بطريقة تتوافق مع معتقدات وافتراضات وأيديولوجية الفرد، وإغفال المعلومات المناقضة لها التي لا تخدم أيديولوجيته.
فنرى كاتب المسلسل محمد سليمان اعتمد في كتابته على رواية واحدة هي رواية المؤرخ ابن إياس في مؤلفه بدائع الزهور في وقائع الدهور، وتجاهل العشرات من المصادر الأخرى التي تناولت تلك الفترة منها على سبيل المثال لا الحصر: الروضة المأنوسة في تاريخ مصر المحروسة، التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية، صرة أهل الإيمان بدولة آل عثمان للمؤرخ المصري محمد بن أبي السرور البكري، مخطوطات صفوة الزمان فيمن تولى على مصر من أمير وسلطان، تأليف مصطفى القلعاوي الصفوي، تحفه الأحباب بمن ملك مصر من الملوك والنواب، تأليف يوسف الملواني، أخبار الأول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول، تأليف محمد بن عبد المعطي الإسحاقي.
حقائق تاريخية
من الحقائق التاريخية التي يبدو أن المسلسل لن يتعرض لها حقيقة أن دولة المماليك هي دولة تركية في الأصل كانت تطلق على نفسها اسم "الدولة التركية" وكان قادتها يتحدثون فيما بينهم باللغة التركية.
يصور المسلسل الدولة العثمانية كدولة محتلة والسلطان سليم الأول كمحتل قدم من بلاده طمعاً في أراضي الدولة المملوكية في مصر والشام، والحقيقة أن الصراع العثماني-المملوكي له أبعاد كثيرة وخلفية تاريخية تعود إلى عهد السلطان محمد الفاتح بسبب نزاع على النفوذ في بعض المناطق بجنوب شرقي الأناضول واستمر بعد ذلك في عهد السلطان بايزيد الثاني، بسبب حماية السلطان المملوكي للأمير جم سلطان الذي كان في صراع على العرش مع شقيقه السلطان بايزيد الثاني، ووصل الخلاف بين الدولتين ذروته في عهد السلطان سليم الأول بسبب علاقات دولة المماليك بالشاه إسماعيل الصفوي، العدو الأكبر للدولة العثمانية في تلك الفترة.
وستوضح حلقات المسلسل بعد بداية عرضها إلى أي حد سيتمادى صنّاع المسلسل في الهجوم على الشخصيات التاريخية التركية في تلك الحقبة كما ستوضح ردود أفعال المشاهدين. فهل تنجح الإمارات في توظيف الدراما لمهاجمة تركيا وتشويه صورتها بعد فشل سياسييها ولجانها الإلكترونية في ذلك.