باتت تركيا من أهم الدول التي تقدم المساعدات الإنسانية على المستوى الدولي، انطلاقاً من جذور تاريخية عميقة تميز بها الشعب التركي في مساندة الفقراء والمحتاجين واللاجئين والنازحين من كل بقاع الكرة الأرضية.
ويعرف القطاع الثالث بأنه مجموعة من المنظمات التي تنشأ من مبادرات المواطنين، تسعى إلى تحقيق النفع العام بعيداً عن الأدوار السيادية للدولة، واستقلالاً عن بيروقراطية قراراتها، وبعيداً كذلك عن بحث القطاع الخاص الدائم عن تعظيم الأرباح.
ويشمل القطاع الثالث الجمعيات التعاونية وجمعيات النفع العام والنقابات والمؤسسات، كما يشمل كذلك المنظمات والجمعيات المعنية بالحقوق الإنسانية والسياسية، وما يسمى بمراكز التفكير ومراكز الرقابة والبحوث والدراسات والاستشارات وكل أنواع مؤسسات المجتمع المدني، بالإضافة إلى الأوقاف.
وعلى الرغم من أن دور الحكومات تجاه هذا القطاع يقتصر على إصدار التشريعات المنظمة لنشاطاته ورقابة أدائه، وبذلك فهي غير مسؤولة عن أية سلبيات محتملة ناتجة عن أعماله وأنشطته وبرامجه، فإنها في الوقت ذاته تغنم منه القوة السياسية والاقتصادية، بخاصة في برامج المعونات والإغاثات المحلية والخارجية، لأنه من أقوى الأذرع وأقلها كلفة في خدمة الدولة.
وتشكِّل منظمات القطاع الثالث المحلية والدولية -باستقلاليتها وقوَّتها- دعماً معنوياً ومادياً لدولها، إذ تعتبر مكمِّلاً لمهام ومسؤوليات القطاع الحكومي (الأول)، ومتكاملاً مع القطاع الخاص (الثاني) في جميع عمليات التنمية المحلية، بما يعزز العلاقة والثقة بين الحكومات وشعوبها، علاوة على تحريك توجهات الدول ودعم قراراتها وسياساتها الخارجية داخل حدودها الجغرافية وخارجها.
وقد وفرت تعديلات قانون الجمعيات في تركيا الصادرة في عام 2004 المجال الفسيح أمام حركة المجتمع المدني، وحملتها مسؤوليات كبيرة ليس فقط في المسيرة التنموية الشاملة بل وأدرجتها في آليات صنع القرار السياسي والاقتصادي، إذ خول القانون لها الحق في المشاركة في اللجان البرلمانية المكلفة بصياغة القوانين المطروحة على مجلس الشعب التركي، كما أعطاها حق الاعتراض على النصوص القانونية أمام المحكمة الدستورية أو أمام لجان برلمانية معينة.
وأنتجت حزمة الحقوق القانونية الواسعة لهذا القطاع، بالإضافة إلى المناخ السياسي الداعم لحركته طفرات غير مسبوقة في إعداده، فبينما كان عدد الجمعيات التركية عام 2009 حوالي 173 ألف منظمة، تزايد هذا العدد سنوياً بحوالي 5000 منظمة في المتوسط على مدار السنوات من 2000 حتى 2019، ما يعني إضافة 100 ألف منظمة جديدة تقريباً، ليبلغ إجمالي عددها حالياً نحو 300 ألف منظمة تقريباً، يغطي نشاطها كل أنحاء تركيا بالإضافة إلى نشاطات بعضها خارج الحدود التركية.
وقد طورت منظمات القطاع الثالث التركية من أدائها فلم تتوقف عند الجانب الإغاثي الذي يقصر دورها على إحصاء الفقراء ومساعدتهم عينياً ومالياً، وإنما توسعت أيضاً نحو الجانب الإنمائي من خلال ابتكار أدوات عمل جديدة لمساعدة الشباب في حياتهم العلمية والمهنية والاجتماعية.
وانطلاقاً من الإحساس بالواجب الإنساني والبعد القيمي والأخلاقي انطلقت مجموعة من المؤسسات التركية لترسي مبادئ الأخوة والخير في العديد من دول العالم، فقامت منظمة "مؤسسة الإغاثة الإنسانية التركية" (IHH) بتوسيع نطاق عملها ليشمل 120 دولة، وتقوم فيها بدور مشهود في مساعدة المحتاجين وإغاثتهم، وتقديم مختلف أنواع الدعم للمصابين في شتى أنحاء الأرض سواء بسبب الحروب أو الكوارث الطبيعية أو الفقر وبغض النظر عن بلدانهم وأديانهم ومعتقداتهم وأعراقهم.
كما تعد "وكالة التعاون والتنسيق التركية" (تيكا TIKA) من بين المؤسسات التي اجتهدت على مدى أعوام طويلة في رسم قسمات الوجه الإنساني لتركيا، إذ وصلت بمساعداتها ومشاريعها المختلفة إلى 140 دولة، وذلك عبر 52 مكتباً تنسيقياً تابعاً لها حول العالم.
وتمتلك "إدارة الكوارث والطوارئ التركية" (آفاد) تجربة متميزة في المجال الإغاثي سواء في مواجهة زلزال نيبال عام 2015، الذي أدى إلى مقتل ما يزيد على 8 آلاف إنسان، أو المساعدات التي قدمت مؤخراً لمسلمي بورما.
ويعد "الهلال الأحمر التركي" أحد أعرق المؤسسات الإغاثية التركية وأكبرها، إذ تأسس في عهد السلطان العثماني عبد المجيد الثاني عام 1868، ويدير عمليات الإغاثة المحلية من خلال مركز عمليات الكوارث "Afom" والدولية من خلال نظام "توركسات" عبر الأقمار الصناعية، وهما تحققان له الجاهزية للوصول إلى أماكن الكوارث محلياً وإقليمياً.
هذا بالإضافة إلى وقف الديانة التركي ومئات الآلاف من الجمعيات الخيرية، التي مكنت تركيا من استضافة قرابة أربع ملايين سوري، إضافة إلى مئات الآلاف من المضطهدين العرب والمسلمين من شتى أنحاء العالم، فضلاً عن المساندة الدائمة للشعب الفلسطيني.
ويبرز القطاع الثالث التركي بمؤسساته المختلفة الوجه الإنساني التركي، إضافة إلى قيامه بدور الدبلوماسية الإنسانية التي تشكل أحد مكامن القوة الناعمة للدولة التركية، إذ امتدت أنشطته لتشمل دعم المنكوبين جراء الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات والحرائق، من خلال تقديم المساعدات الغذائية والرعاية الصحية ودعم التعليم، ومن أهم المشاريع التي تقوم بها كفالة الأيتام وتوزيع الأضاحي وحفر الآبار ومشاريع التشغيل للعاطلين عن العمل وغيرها.
ولا شك أن توافر البنية التحتية للقطاع الثالث التركي وخبراته الواسعة وانتشاره في أعداد كبيرة من بلدان العالم ساهم في سرعة تقديم العون للعديد من دول العالم في مواجهة فيروس كورونا، فعلى الرغم من انتشار الفيروس على الأراضي التركية، فإن تركيا حرصت على تقديم الدعم للدول التي احتاجت إلى المساعدة.
وفي الوقت الذي تتبادل فيه دول الاتحاد الأوروبي الاتهامات بالأنانية والسطو على المستلزمات الطبية المستوردة، صرح الرئيس أردوغان مؤخراً بأن المساعدات الطبية التركية وصلت إلى 34 دولة حول العالم، وذلك في إطار الجهود التي تبذلها تركيا لمساعدة الدول العربية والغربية في أزمة "كورونا"، وأضاف الرئيس: "نحن لا نلبي احتياجات مواطنينا فحسب، بل نحاول أيضاً دعم البلدان الأخرى والمساعدة في حدود إمكانياتنا".
وفي مطلع مارس/آذار الحالي، أرسلت تركيا مساعدات طبية إلى خمس دول في منطقة البلقان، كانت قد طلبت دعم أنقرة لمواجهة جائحة كورونا، إذ أقلعت طائرة شحن تركية من مطار أتيمسكوت العسكري بالعاصمة أنقرة، تحمل مساعدات طبية إلى شمال مقدونيا والجبل الأسود وصربيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو.
كما قدمت تركيا المساعدات الصحية للعديد من دول الاتحاد الأوروبي ومن بينها إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا والمجر وبلغاريا، وكذلك لبعض الدول العربية ومنها العراق وليبيا وفلسطين، هذا بخلاف تصدُّر بعض الدول العربية لقائمة المستوردين للألبسة الواقية والمعقمات خلال الربع الأول من العام الحالي، إذ جاءت العراق في المركز الأول بواردات قيمتها 468 مليون دولار وتلتها مصر بقيمة 362 مليون دولار ثم السعودية بقيمة 348 مليون دولار.
وقد امتدت المساعدات التركية إلى دولة "إسرائيل" التي أكّد وزير الصحة التركي فخر الدين قوجه أن وزارته تَلقَّت منها طلباً للمساعدة، موضحاً أن حكومة بلاده ستلبِّي هذا الطلب من منظور إنساني بحت، ولا يخفى أن تلبية الطلب الإسرائيلي كان مشروطاً بإدخال كميات مماثلة من المساعدات إلى الفلسطينيين، وذلك في إطار الدعم المستمر من الحكومة التركية لحقوق الشعب الفلسطيني وقضاياه العادلة.
وتحتوي المساعدات الصحية التركية على آلاف المستلزمات الطبية، كالأقنعة والكمامات والملابس الواقعية ومواد التعقيم السائلة المضادة للجراثيم وأدوات الفحص السريعة، أُنتِجَت بالإمكانيات الوطنية التركية في مصانع وزارة الدفاع ومؤسسة تصنيع الآلات والمواد الكيماوية.