تابعنا
استطاع الأمنيون بتونس بعد الثورة أن يحققوا مكتسبات مادية ومعنوية في مقدمتها حق ممارسة العمل النقابي، لكن هذه المكاسب تحولت حسب منظمات حقوقية وأحزاب سياسية إلى عصا غليظة بوجه المواطن والدولة.

حُرم الأمنيون في تونس طيلة فترة حكم الرئيس المخلوع بن علي عدة حقوق كان منها حق العمل النقابي للدفاع عن حقوق منظوريهم، لكن هذا الحق سرعان ما تحول إلى قنبلة موقوتة بوجه المواطن والدولة، وبالتالي فإن من الممكن أن تقوض مقومات الأمن الجمهوري.

أعادت الاحتجاجات الاجتماعية الأخيرة التي شهدتها محافظات تونسية للتنديد بالوضع الاجتماعي والاقتصادي المتردي ورافقتها حملة اعتقالات واسعة ضد متظاهرين، مخاوف تعاظم دور النقابات الأمنية، بالتوازي مع رفع بعضها في الأيام الماضية شعارات مهينة ضد وزير الداخلية ورئيس الحكومة هشام المشيشي وتهديدها بالتمرد بالتلويح بالإضراب العام وعدم تأمين المباريات الرياضية وجلسات المحاكم والتظاهرات الثقافية وغيرها من الخدمات الأمنية.

وسمح المرسوم 42 المؤرّخ بـ25 مايو/أيار 2011 الذي صدر بفترة رئيس الحكومة آنذاك الباجي قائد السبسي لأول مرة لأعوان قوات الأمن الداخلي بإنشاء النقابات الأمنية التي منحها الضوء الأخضر للتنظيم والنشاط بأسلاك نقابية أمنية وحتى الظهور في البلاتوهات التلفزية للدفاع عن حقوق منظوريها.

وأشعلت حادثة "إهانة" مجموعة من الأمنيين من قبل متظاهرين شبان وسط العاصمة عبر قذفهم بسوائل دهنية وتعمُّد استفزازهم بشعارات اعتبرها كثيرون لا أخلاقية، غضب النقابات الأمنية التي أشادت بتحلِّي منظوريها بضبط النفس رغم محاولة جرهم إلى مربع الاستفزاز، كما طالبت رئيس الحكومة بالتدخل لرد الاعتبار لهم ومحاسبة المتورطين.

حق دستوري

يرفض الناطق الرسمي باسم النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي شكري حمادة في حديثه مع TRT عربي الاتهامات التي تطال النقابات بالتغول والاستقواء على الدولة، مؤكداً أنها تنشط في إطار حقها الذي كفله الدستور والقانون، مشيداً بالدور الذي تضطلع به هذه النقابات بتأطير الاحتجاجات وفرض الأمن، مضيفاً: "من يدعُ لحل نقاباتنا فهو يشرِّع للفوضى".

يقول شكري حمادة إن محاولات شيطنة النقابات الأمنية ليس بجديد بل انطلق منذ انبعاث هذا الهيكل، تحت حجج وصفها بالواهية من قبل منظمات حقوقية وأحزاب، داعياً جميعها للتوجه إلى القضاء في حال استشعروا ممارسات غير قانونية أو تجاوزات من قبل الأمنيين.

وتساءل محدثنا بالمقابل عن صمت رابطات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني عن الاعتداءات التي تمس الأمنيين في ذواتهم المادية والمعنوية خلال ممارستهم لعملهم.

رئيس الحكومة ووزير الداخلية بالنيابة هشام المشيشي أكد خلال استقباله مجموعة من ممثلي النقابات الأمنية استعداد الحكومة للتّفاعل إيجابياً مع جملة المطالب الاجتماعية والمهنية للأمنيين، كما وعد بتسريع النظر في مشاريع تنقيح القوانين الأساسية لأسلاك قوات الأمن الداخلي وإعادة ترتيب المسارات المهنية للأعوان.

مشروع قانون لحماية الأمنيين

وسبق أن أثار مشروع قانون لحماية الأمنيين الجدل بعد عرضه على أنظار البرلمان منذ سنة 2015، ثم سحبه من قبل رئاسة الحكومة لمزيد النظر فيه، بسبب مخاوف أطلقتها منظمات حقوقية من استغلال هذا القانون لتشريع ثقافة الإفلات من العقاب ومنح الأمنيين حصانة مطلقة، مقابل تمسُّك النقابات الأمنية بتمريره لتعزيز قدرتها على أداء مهمتها بضبط النظام ومكافحة الإرهاب ضمن ترسانة من القوانين التي تحمي منظوريها.

في الإطار ذاته أطلقت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان صرخة فزع، منددة في بيان لها بتحركات النقابات الأمنية، وما وصفته بـ"الكم الهائل من السموم والبذاءات التي ينفثها بعض الأمنيين ونقاباتهم" على حد تعبيرهم، محذرة من تحول هذا الهيكل النقابي الأمني إلى "قوة وعصابة مليشيوية خارجة عن القانون من شأنها تهديد السلم الاجتماعي وقيم الجمهورية.

وحذرت الرابطة من مغبة تشكيل النقابات الأمنية "جهازاً موازياً للجهاز الرسمي لوزارة الداخلية بالسطو على دور المسؤولين الأمنيين الرسميين وترويج خطاب موازِ بوسائل الإعلام الرسمية".

وأشارت إلى أن تعمُّد بعض النقابات الأمنية مخالفة القوانين الداخلية لقوات الأمن ومخالفة القانون والدستور ورفضها تأمين المرافق العمومية يرتقي إلى التمرد والعصيان، داعية رئيس الحكومة ووزير الداخلية لتحمل المسؤولية كاملة عن جرائم النقابات الأمنية المذكورة.

لا يخفي رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان جمال مسلم في تصريح لـTRT عربي ما يعتريه من مخاوف جدية على مستقبل الأمن الجمهوري بتونس في ظل تنامي تجاوزات النقابات الأمنية وإرساء ثقافة الإفلات من العقاب، مضيفاً: "لدينا مخاوف جدية من انحراف دور النقابات الأمنية وسقوطها بمستنقع التجاذبات السياسية، نريدها نقابات تدافع عن حقوق منظوريها لتحسين ظروف عملهم لا أداة في يد السياسيين".

ويشير مسلم إلى وجود العديد من القضايا التي رفعت ضد الأمنيين تتعلق بممارسات تعذيب لا إنسانية داخل السجون ومراكز التوقيف لكنها لم تجد طريقها نحو القضاء.

إدانات واسعة

66 منظمة حقوقية وأحزاب وجمعيات مدنية نددت في بيان مشترك بما وصفته بالبطش البوليسي الذي جوبهت به التحركات الاحتجاجية لشباب الأحياء الشعبية المطالبة بالتنمية والتشغيل، كما حذرت من ارتفاع منسوب القمع من قبل النقابات الأمنية، متهمة إياها بالتحول إلى طرف سياسي في شكل عصابات مسلحة تهدد المحتجين بالوقف والتنكيل، في انتهاك صارخ للحقوق الدستورية في تجاوز لدوره ودور مؤسسات الدولة، وفق ما جاء في نص البيان المشترك.

دعت المنظمات بدورها الحكومة لأخذ التدابير والإجراءات اللازمة بشأن هذه النقابات بما في ذلك تتبعهم قضائياً بسبب حملات التكفير والدعوات للاعتداء على المواطنين المحتجين.

أمن مُوازٍ

يقول الناشط الحقوقي والمحامي الشاب رحال جلالي لـTRT عربي إنه كان أحد ضحايا العنف الممنهج من قبل من وصفهم ببعض "المليشيات الأمنية النقابية المحسوبة على جهات سياسية"، إبان مشاركته برفقة زملائه المحامين في مسيرة احتجاجية لإحياء ذكرى اغتيال الناشط السياسي اليساري شكري بلعيد، كما لفت إلى أن استهدافه وزملائه يأتي كنوع من سياسة التشفي ومحاولة لإسكات أفواه كل من تجنَّد للدفاع عن الشباب المحتج خلال الأسابيع القليلة الماضية.

المحامي الشاب شدد بالمقابل على حق الأمنيين في التنظيم ضمن أسلاك نقابية مختلفة في إطار ضمان حقوق منظوريهم والدفاع عن مطالبهم المشروعة، لكنه حذر من تحول بعضها إلى "مليشيات مسلحة" و"أجهزة أمنية موازية" تأتمر بأوامر بعض السياسيين وتتقاطع مع مصالحهم وأجنداتهم ضد الشعب.

TRT عربي