ويبدو حرص البلدين علي فصل المسارين السياسي والاقتصادي واضحاً، بل ودعم المسار الاقتصادي الذي تصاعد بشكل ملحوظ خلال الأعوام الاخيرة، بل وتطور الأمر إلى تعاون وتفاهمات بين الجهات الأمنية في البلدين عبر لقاءات بين أجهزة المخابرات أُعلِنَ عنها مؤخراً.
وبدأ الخلاف المصري التركي منذ عام 2013 عندما رفضت الحكومة التركية الانقلاب العسكري في مصر، واستضافت بعد ذلك قيادات المعارضة المصرية، وسمحت لهم بممارسة النشاط الإعلامي الذي آلم كثيراً النظام المصري، وتأجج الخلاف في الملف الليبي الذي دعمت فيه مصر مليشيات خليفة حفتر على حساب الحكومة الشرعية المعتَرف بها دولياً والمدعومة تركياً، ووصل الخلاف إلى حد التهديد المصري بالتدخل العسكري.
ورغم المبالغة المصرية في تحديد نقاط جغرافية بعيدة عن حدودها تعتبرها تهديداً لأمنها القومي فإن تركيا سرعان ما اعترفت بحق مصر في الحفاظ علي أمنها القومي، وأنها علي استعداد للتفاهم بشأن هذه النقاط.
وتعمق الخلاف في ملف غاز المتوسط كثيراً بتوقيع الدولة التركية عدة اتفاقيات مع حكومة الوفاق الليبية في ما يتعلق بالشأن البحري، وهو ما تقاطع مع مساعي مصر الحثيثة لتصبح مركزاً إقليمياً للغاز الطبيعي، وتزعُّمها منتدي غاز شرق المتوسط الذي أُعلِنَ عنه في مطلع عام 2019 بمشاركة سبع دول، ويهدف إلى تأمين احتياجات الأعضاء من الطاقة لصالح رفاهية شعوبهم.
ورغم إجماع المتخصصين في شأن الطاقة أن الاتفاقية التركية الليبية تخدم مصالح مصر وتحفظ حقوقها البحرية. إلا أن القاهرة سارعت بترسيم حدودها البحرية مع اليونان، علاوة على العديد من التفاهمات والزيارات عالية المستوى مع قبرص الرومية واليونان في موقف مضاد تماماً لموقف تركيا التي تتمسك بحقوقها كاملة في التنقيب عن الغاز والبترول في هذه المنطقة انطلاقاً من شرعية مياهها الاقتصادية.
وبعيداً عن هذه القضايا المتعددة والشائكة، والتراشق الإعلامي المستمر بين البلدين، إلا أن حجم العلاقات الاقتصادية بين البلدين لم يتأثر سلبياً بل وتعمق بصورة كبيرة خلال الفترة الماضية ربما بصورة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وهو الأمر الذي وصفه المراقبون بالدور الناجح للدبلوماسية الاقتصادية.
اقرأ أيضاً:
ومع اقتراب موعد النظر - خلال ما تبقى من العام الحالي- في تجديد الاتفاقية التجارية والتي تسببت في طفرة العلاقات الاقتصادية بين البلدين والمبرمة في ديسمبر عام 2005 والتي دخلت حيز التنفيذ الفعلي في مارس عام 2007 لم تظهر أية بوادر من الجانبين تلمح إلى إمكانية إلغائها، أو حتى تحجيمها، وهو ما يؤكد حرص الطرفين على هذه العلاقات الاقتصادية، لاسيما بعدما أضحت أرقام التجارة بينهما رقماً مهماً يصعب تعويضه خاصة في ظل الظروف العالمية الحالية.
وكشف تقرير حديث للهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات في مصر، ارتفاع حجم الصادرات إلى تركيا، بنسبة 9.7% في 2018 لتصل إلى 2.2 مليار دولار، مقارنة بـ 1.9 مليار دولار خلال عام 2017. في حين تناقصت الصادرات إلى 1.7 مليار دولار بنهاية عام 2019، وهو ما يشكل قرابة 5.7% من إجمالي الصادرات المصرية، وتزداد أهمية هذا الرقم على ضعفه إذا نسب إلى إجمالي الصادرات المصرية غير البترولية والتي لم تتجاوز 17 مليار دولار خلال عام 2019، وكذلك باحتلال تركيا المركز الثالث بقائمة أكبر الدول المستوردة من مصر.
بالمقابل ارتفع حجم صادرات تركيا إلى مصر بنسبة 29% في 2018 ليبلغ نحو ثلاثة مليارات دولار، مقارنة بـ2.3 مليار دولار في 2017، ثم ازداد ليبلغ 3.3 مليار دولار عام 2019، وعلى الرغم من ضعف الرقم نسبة إلى جملة الصادرات التركية التي اقتربت من 180 مليار دولار عام 2019، إلا أن التداعيات الاقتصادية السلبية على الاقتصاد العالمي والناجمة عن أزمة كورونا تعظم أهمية الأسواق التصديرية مهما كانت نسبتها، لاسيما في ظل الركود العالمي المتوقع خلال العامين المقبلين.
وشملت أبرز السلع التي استوردتها تركيا من مصر" اللدائن ومصنوعاتها، والأسمدة، والوقود، والزيوت المعدنية، والمنتجات الكيماوية، والقطن، والأجهزة الكهربائية، والشعيرات التركيبية أو الاصطناعية، والرمال، والملح، والملابس الجاهزة" ، وتشمل الصادرات التركية لمصر سلع "حديد التسليح، والأسمنت، والكيماويات، والمنسوجات، والسيارات، والسلع الكهربائية".
ولم يتوقف التعاون الاقتصادي بين البلدين عند حدود التبادل التجاري، فقد قدرت وزارة التجارة والصناعة المصرية حجم الاستثمارات التركية في مصر بنحو 5 مليارات دولار، تحتل بها تركيا المرتبة رقم 47 ضمن قائمة أهم الدول المستثمرة في مصر، وذلك من خلال المصانع التركية في المناطق الصناعية بمدن 6 أكتوبر وبرج العرب، وتقدر أعدادها بحوالي ٤١٨ منشأة صناعية، يعمل بها ٥٢ ألف عامل مصري.
يذكر أن جمعية رجال الأعمال الأتراك - المصريين، تأسست عام 2003 عبر 22 رجل أعمال، وحالياً تفوق الـ800 عضو، 90 منهم أتراك فقط والباقى مصريون، يديرون شركات في البلدين يبلغ إجمالى استثماراتها نحو 8 مليارات دولار.
يشير التصاعد الرقمي للعلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا إلى رغبة متبادلة من الطرفين على إبقاء المصالح الاقتصادية بعيدة عن أي توتر سياسي، وإعلاء مصالح الشعبين الاقتصادية، وهو نموذج قلما يوجد في بلدان الشرق الاوسط وربما بين دول العالم المختلفة، لذا يجب الإشادة به والتشجيع على أهمية استمراره وتحديه لأية صعوبات متوقعة.