تتالت في الفترة الأخيرة الضربات الموجعة لقطاع الصناعات العسكرية الفرنسية، ليلقي ذلك بظلاله على الدبلوماسية الفرنسية التي تعيش اليوم واحدة من أحلك فتراتها.
فبعد إعلان أستراليا فجأةً انسحابها من الاتفاقية المبرمة مع فرنسا منذ عام 2016 لتزويدها بغواصات هجومية تقليدية بقيمة 90 مليار دولار، مقابل حصولها على الغواصات الأمريكية التي تعمل بالدفع النووي في إطار الشراكة الأمنية الجديدة "أوكوس" لمجابهة الصين، عبّرت فرنسا على لسان مسؤوليها عن خيبة أملها وغضبها مما اعتبرته محاولة استبعاد الولايات المتحدة لها كحليف ونسف أستراليا العقد الذي يمكن أن يضع علاقة البلدين على المحكّ.
ومنذ ذلك الحين تتداول وسائط إعلامية محلية وأجنبية الرسائل التي يبدو فيها أن باريس بدأت تصعّد مواقفها في الاتجاهات كافة، فبعد ساعات من استدعائها سفراءها في واشنطن وكانبيرا، وتباحثها مع المسؤولين والدبلوماسيين في أبعاد القضية وتداعياتها، نشرت وسائل إعلامية سويسرية خبراً عن إلغاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الأحد 19 سبتمبر/أيلول الجاري لقاءه مع رئيس الاتحاد السويسري غي بارميلين الذي كان مقرراً الفترة المقبلة، على خلفية استياء باريس من اختيار برن اقتناء الطائرات الأمريكية F-35A عوضاً عن الطائرات القتالية رافال.
هل أُلغيَ اللقاء الفرنسي-السويسري فعلاً؟
تتضارب إلى الآن الأنباء عن خلاف محتمَل بين فرنسا والجارة السويسرية، بعد أن نشرت صحيفة "لوماتان ديمانش" Le Matin Dimanche السويسرية نقلاً عن مصادر دبلوماسية، خبر إلغاء الإليزيه اللقاء المزمع إجراؤه مع رئيس الاتحاد السويسري غي بارملين في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، رغم الجهود المبذولة طوال أشهُر لدى الجانبين لتنظيمه.
وتعزو الصحيفة هذا القرار المفاجئ إلى استياء فرنسا من اختيار سويسرا الحصول على الطائرات الهجومية الأمريكية F-35A بدلاً من الطائرات المقاتلة الفرنسية رافال التي كانت تنافسها، إلى جانب طائرات تايفون الأوروبية وF18 الأمريكية.
فبعد الدخول في مناقصة انضمّت إليها أهم شركات الصناعات العسكرية في العالم، أعلن المجلس الفيدرالي السويسري في يونيو/حزيران الماضي إبرام اتفاقية بقيمة 6 مليارات دولار، لاقتناء 36 طائرة من طراز F-35A التي تنتجها شركة “لوكهيد مارتن” الأمريكية، لأنها تُعتبر “أعلى فائدة عامة بأقلّ تكلفة إجمالية”، حسب ما صرّحت به الحكومة السويسرية في بيان رسمي.
وفي أول تصريح لها عقب إعلان فوزها بالمناقصة، قالت بريدجيت لودرديل، المدير العامّ لبرنامج F-35: “يشرّفنا اختيار سويسرا لنا، ونتطلع إلى الشراكة مع الحكومة والشعب والقوات الجوية والصناعة السويسرية لتقديم طائرات F-35 والحفاظ عليها. فمع هذا الاختيار، ستصبح سويسرا الدولة الخامسة عشرة التي تنضمّ إلى برنامج F-35 القياسي، وتنضمّ إلى عديد من الدول الأوروبية في تعزيز القوة الجوية والأمن العالميين".
وفي السياق ذاته أشارت تقارير صحفية سويسرية، إلى أن باريس تلوم وزارة الدفاع السويسرية على استمرارها في التفاوض معها، رغم اتخاذ قرار شراء الطائرات الأمريكية بالفعل.
من جانبه فسّر عضو مجلس الدولة في جنيف كارلو سوماروغا خبر إلغاء الاجتماع الفرنسي-السويسري من نفس وجهة نظر "الغاضبين الفرنسيين"، وربط ذلك بغضب فرنسا حيال شراء سويسرا طائرات مقاتلة أمريكية، بخاصة أن اللقاء مع رئيس دولة مجاورة يُعَدّ لقاءً قوياً لا يمكن إلغاؤه في اللحظات الأخيرة بعد الاستعداد له بالفعل طوال ستة أشهر.
وفي هذه الأثناء وبينما بدأ الخبر ينحو منحى آخر ويثار الجدل عن بوادر أزمة دبلوماسية، أو عن احتمال احتدام خلاف بين البلدين، ينفي الإليزيه خبر إلغاء الاجتماع. وجاء في تصريح رسمي: "أكد الرئيس إيمانويل ماكرون استعداده للاجتماع في أوائل عام 2021، إلا أن سويسرا اقترحت موعداً في نوفمبر/تشرين الثاني، وأجبنا بأننا سننظر في ذلك".
فيما قال مصدر دبلوماسي فرنسي في تصريح لوسائل إعلامية محلية، إن "الموعد لم يتحدد حتى الوقت الراهن، إضافة إلى ذلك فقد التقى إيمانويل ماكرون الرئيس السويسري غي بارميلين في أولمبياد طوكيو في يوليو الماضي".
أما المتحدثة الرسمية باسم وزارة الاقتصاد الفرنسي إيرين هارنيشبرغ فقد أفادت في السياق ذاته بأنها "لم تكن زيارة دولة، بل مجرد زيارة عمل". وأضافت الوزيرة الفرنسية أنه لم يُلغَ موعد مؤكد أساساً، لأن الزيارة لم يُتفَق عليها بشكل نهائي.
فرنسا.. وضع دولي دقيق
يرى خبراء ومحللون أن فرنسا تعيش على وقع وضع دقيق على الساحة الدولية، منذ دخلت في مرحلة التصعيد الدبلوماسي مع الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وتنتشر الأخبار كذلك عن مزيد من الخلافات مع الحلفاء، على غرار سويسرا.
ورغم محاولة الولايات المتحدة وبريطانيا التهدئة واحتواء الغضب الفرنسي، ورغم التزام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بدوره الصمت حيال ذلك، فإن رئيس الدبلوماسية ووزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان اختار الدخول في رهان، اعتبره مراقبون ومحللون محفوفاً بالمخاطر، إذ استدعى سفيرَي بلاده في واشنطن وكانبيرا تعبيراً عن غضب باريس وتنديدها بتداعيات إلغاء صفقة الغواصات.
وتجد بذلك فرنسا نفسها اليوم وحيدة على الساحة الدولية، بخاصة أن الاتحاد الأوروبي كذلك لم يتعجل في دعمه خيارات باريس، واختار مقابل ذلك الصمت. وستنعقد في هذه الأثناء افتتاحية الجمعية العامة السنوية للأمم المتحدة، هذا الأسبوع في مدينة نيويورك الأمريكية، دون حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي اختار لودريان عوضاً عنه.
في المقابل فاقمت هذه التوترات الدبلوماسية مستوى الغضب والانتقاد لدى الأوساط الفرنسية والمعارضين اليمينيين، لضعف دبلوماسية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وفشل سياسته في الحفاظ على الحلفاء التاريخيين لفرنسا.