في 24 يوليو/تموز الجاري، حل البابا فرنسيس بكندا في زيارة بمثابة "رحلة للتكفير عن الذنب"، بأمل أن تساعد في معالجة الأخطاء التي ارتكبها قساوسة وراهبات الكاثوليك بحق السكان الأصليين داخل المدارس التي أداروها هناك، وشهدت انتهاكات جسيمة في أولئك الشعوب.
هكذا قدَّم أعلى رأس في الكنيسو الكاثوليكية اعتذاره، يوم الاثنين، في جمع جماهيري ومحاطاً برؤساء مجموعات الشعوب الأصلية. حيث وصف ما فعله القساوسة والراهبات في حق السكان الأصليين بـ "الشر"، متضرعاً من أجل الصفح عنه.
فيما تقلب هذه الزيارة آلام كثيرة في ذاكرة من عاشوا مآسي المدارس الداخلية الكاثوليكية. وتتحدث الأرقام عن أنه ما بين عامي 1881 و1996 فصل أكثر من 150 ألف طفل من أبناء السكان الأصليين عن عائلاتهم ونُقلوا إلى تلك المدارس، حيث تعرّض العديد منهم للتجويع والضرب والاعتداء الجنسي في نظام وصفته لجنة الحقيقة والمصالحة الكندية بأنه "إبادة ثقافية".
وأدّى اكتشاف رفات 215 طفلاً في إحدى تلك المدارس السابقة في كولومبيا البريطانية العام الماضي إلى إعادة هذه القضية إلى الواجهة. ومنذ ذلك الحين اكتُشف رفات مئات الأطفال المشتبَه بأنهم كانوا في تلك المدارس في جميع أنحاء البلاد.
تضرُّع من أجل الصفح
ووصل البابا فرانسيس، الأحد، إلى مدينة إدمونتون الكندية، في رحلة وصفها بـ"رحلة التوبة"، حيث بدأها بالاجتماع بعدد من قادة مجموعات السكان الأصليين. وخلال حديثه بالقرب من موقع مدرستين سابقتين في بلدة ماسكواتشيز في ألبرتا، قدّم البابا اعتذاره عن دور الكنيسة في المدارس التي تَعرَّض فيها أطفال الشعوب الأصلية لسوء المعاملة، واصفاً الإدماج الثقافي القسري بأنه "شر مؤسف" و"خطأ كارثي".
وقال البابا فرانسيس في خطابه ببلدة ماسكواتشيز، التي يعني اسمها "تلال الدب" في اللغة الكيرية، وهي لغة الهنود الحمر الأصليين في كندا: "بكل خجل وبشكل لا لبس فيه، أتضرَّع من أجل الصفح عن الشرّ الذي ارتكبه كثير من المسيحيين بحقّ السكان الأصليين".
بل وذهب البابا في حديثه إلى أبعد من ذلك، إذ اعتذر عن الدعم المسيحي "للعقلية الاستعمارية" الشاملة في ذلك العصر، ودعا إلى "تحقيق جادّ" في ما حدث بتلك المدارس لمساعدة الناجين وأحفادهم.
مضيفاً القول: "أنا هنا لأن الخطوة الأولى في رحلة التوبة بينكم هي طلب المغفرة مرة أخرى، وإبلاغكم مجدداً بأنني آسف جدّاً (...) وأمام هذا الشر المؤسف تجثو الكنيسة أمام الله وتتضرع له من أجل المغفرة عن خطاياها تجاه أطفالها".
هذا وفي سبتمبر الماضي، قدّم أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في كندا اعتذاراً للسكان الأصليين، حيث قالوا في بيان: "نحن الأساقفة الكاثوليك في كندا نعبّر عن أسفنا العميق ونتقّدم باعتذار لا لبس فيه". معترفين بالمعاناة التي عاشها تلاميذ السكان الأصليين على يد الطائفة الكاثوليكية في المدارس الداخلية.
الجرائم التي اعتذر عنها البابا
كان السير جون إيه ماكدونالد، المولود في أسكتلندا، وأحد أفراد عائلة مهاجرة وصلت إلى كندا عام 1820، أول رئيس وزراء للبلاد دعم بحماسة المدارس الداخلية.
وقال ماكدونالد عام 1879، في كلمة أمام مجلس العموم الكندي، "عندما تكون المدرسة متحفظة، ويعيش الطفل مع والديه المتوحشين، قد يتعلم القراءة والكتابة، إلا أن عاداته وطريقة تدريبه على التفكير تظل هندية، لذا يجب إبعاد الأطفال قدر الإمكان عن تأثير الوالدين".
ومنذ عشرينيات القرن التاسع عشر وحتى إغلاق آخر 139 مدرسة داخلية هندية، أُخذ حوالي 150 ألف طفل من أبناء السكان الأصليين من آبائهم، بالقوة أحياناً، ووُضعوا في المدارس، حيث عانوا الاعتداء الجسدي والنفسي والجنسي.
وتشير بعض التقارير إلى أنه لم يُسمح للأطفال حينها بالتحدث بلغتهم الأصلية أو ممارسة ثقافتهم، وهو أشبه بما يسمى الإبادة الثقافية، وتعرض الكثير منهم لسوء المعاملة وسوء التغذية والإيذاء والاعتداء الجنسي.
فيما كشفت تحقيقات عن أرقام مفزعة للأطفال الذين توفوا في ظل الظروف الوحشية والقاسية للمدارس الداخلية، والتي بلغت قرابة 4000 طفل.
ومن بين الأدلة الشاهدة على فظاعة ما ارتكبته هذه الأقبية المظلمة في حق الأطفال الأبرياء، العثور على رفات 215 طفلاً غير موثقة في مدرسة كاملوبس إنديان الداخلية Kamloops Indian Residential School، التي كانت تديرها حينها الكنيسة الكاثوليكية أواخر القرن التاسع عشر إلى ستينيات القرن الماضي، والتي استولت عليها الحكومة الفيدرالية بعد ذلك، وأُغلقت لاحقاً في عام 1978 .
ولم تكن هي الحادثة الوحيدة التي كشفت عنها عمليات التنقيب، إذ نشرت وسائل إعلامية عن اكتشاف مقابر جماعية أخرى مجهولة الهوية، في غرب كندا.
أدانت الأوساط الحقوقية هذه الجرائم والانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، وشددت على ضرورة إجراء التحقيقات اللازمة وتعويض عائلات الضحايا.