ومن أهم هذه المعايير لقياس نجاعة مكافحة فيروس كورونا الإجراءات المبكرة لمنع وصول الفيروس وتفشيه، ثم وجود مؤسسات حكومية قوية وقادرة على التنسيق فيما بينها (مثل وزارات الصحة والداخلية والإعلام والاقتصاد) وقيادة سياسية قادرة على توزيع المهام بين مؤسساتها من دون أن يصيبها الإنهاك في بداية الأزمة.
ويرى كثير من التوقعات الأكاديمية المقدّرة مثل توقع ستراتفور أن كورونا لن يتسبب على الأرجح بوفاة أعداد كبيرة مثل الأنفلونزا الإسبانية، ولكنه من المرجح أن يتسبب بركود اقتصادي لكثير من البلدان بالدرجة الأولى، ولهذا يبرز هنا معيار البنية الاقتصادية الأقدر على الصمود، وعلى دعم القطاع العام، وتوفير ميزانية جيدة للإنفاق الاجتماعي من دون التأثير على الإنفاق في مجالات التطوير الأخرى.
فيما وراء الدولة تقع على المواطنين مسؤولية كبيرة في التزام البيوت والتعليمات الطبية، وبالإضافة إلى هذا يلزم بقاء الروح المعنوية والتضامن بين المجتمع والدولة في مستوى عالٍ، وهنا يبرز معيار كاريزما القيادة وقدرة الجهاز الإعلامي والتوعوي في الدولة.
إذا ما نظرنا إلى مدى وجود هذه المعايير في تركيا ومدى مراعاة الدولة التركية ومؤسساتها لها فسوف نجد تميزاً في العديد من النقاط، وعلى رأسها وجود بنية تحتية صحية تتمثل في عدد الأسرّة في غرف العناية مقابل عدد المواطنين، إذ تتفوق تركيا على دول مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وروسيا وبريطانيا.
وقد أعلن وزير الصحة التركي عن وجود 100 ألف غرفة في المستشفيات التركية جاهزة لتصبح غرف عزل. كما يوجد في تركيا عدد مناسب من الأطباء والعاملين في القطاع الصحي. وبالنسبة إلى عدد الفحوص الخاصة بفيروس كورونا استطاعت الدولة الوصول إلى إجراء أكثر من 20 ألف فحص يومياً. و"اليوم يعمل نحو 165 ألف طبيب في وزارة الصحة وفي المشافي الجامعية والقطاع الخاص، إلى جانب 205 آلاف ممرض وممرضة، و360 ألف فرد دعم، كما شرعت تركيا بالعمل لتوظيف 32 ألف عامل جديد".
وبخصوص الإجراءات المبكرة تأتي تركيا في مقدمة الدول التي اتخذت تدابير مبكرة، إذ أطلقت في 6 يناير/كانون الثاني مركز عمليات ولجنة علمية لدراسة الفيروس، وأعدت دليلاً حوله، ثم بدأت فحوصات القادمين من الدول الموبوءة.
وفي 3 فبراير/شباط أوقفت الرحلات من الصين وإليها، وأنشأت مستشفيات ميدانية على الحدود مع دول الجوار، وفي 23 فبراير/شباط أغلقت الحدود مع إيران. وفي 29 فبراير/شباط أوقفت الرحلات مع إيطاليا، بينما ظهرت الإصابة الأولى رسمياً في تركيا في 10 مارس/آذار لمواطن تركي عائد من أوروبا.
ومباشرة جرى تعليق الدراسة ووقف الفاعليات والمباريات والسفر الرسمي إلى الخارج في 12 مارس/آذار، وفي الوقت نفسه حاولت إدارة الوضع الداخلي بخاصة تجاه كبار السن، فتص إليهم احتياجاتهم الدوائية والغذائية من دون الحاجة إلى ذهابهم إلى المشافي والعيادات الطبية.
كما راقبت الأسواق لمنع عمليات الاحتكار، وعند وصول عدد المصابين إلى 18 شخصاً في 15 مارس/آذار جرى وقف صلاة الجمعة في المساجد وأغلقت المقاهي وأماكن التجمعات. وفي هذا السياق، صرح الرئيس التركي بأن بلاده تأتي في مقدمة الدول من حيث اتخاذها تدابير وقائية مبكرة ضد فيروس كورونا، وأنها مستعدة لكل السيناريوهات بهذا الخصوص.
وقد بدت القرارات تدريجية بما يتناسب مع تهديد الفيروس، وصولاً إلى قرار وضع قيود على من هم فوق سن 65 ودون سن 20 في موضوع الخروج إلى الشوارع، وقرار إلزام المواطنين بارتداء الكمامات في أماكن التجمعات، مع ارتفاع الأعداد. ولوحظ أن الدولة لم تستجب لدعوات بمنع التجول الشامل لقدرتها حتى الآن على السيطرة على الأوضاع من دون الحاجة إلى هذا الإجراء الذي له تأثيرات كبيرة.
على الصعيد الاقتصادي، أعلنت الدولة عن حزمة اقتصادية بقيمة 15 مليار دولار لحماية تركيا من آثار الفيروس في إطار برنامج الدرع الاقتصادي، وشمل ذلك تأجيل الضرائب والقروض وتقديم حوافز ودعم للقطاعات المتضررة، وضاعفت الدولة صندوق الائتمان الحكومي لحماية البنوك، وأُعلن عن صندوق لدعم العائلات الفقيرة، وقُدمت دفعة للمتقاعدين كمكرمة خلال شهر رمضان لتدفع في بداية شهر إبريل/نيسان. كما حاولت الدولة تقليل الضرر على المصدّرين من خلال تغيير طرق الشاحنات، وجعل النقل لبعض البلدان من دون تماسٍّ بشري. كذلك فإن امتناع الدولة عن فرض الإغلاق الشامل يخفف من الآثار السلبية على الاقتصاد.
وعلى مستوى التنسيق بين مؤسسات الدولة يلاحظ وجود تنسيق بين الداخلية والصحة والنقل وغيرها بشكل فعّال، وقد رأينا سرعة تحرك وزارة النقل لافتتاح طرق حول مستشفى إيكي تاللي الجديد في إسطنبول.
إضافة إلى تعامل الدولة مع مروجي الإشاعات على مواقع التواصل، ودور دائرة الاتصال في رئاسة الجمهورية في التوعية وحملات التضامن بين المجتمع والدولة للحفاظ على الروح المعنوية العالية. وقد جمعت مبادرة BIZ BIZE YETERIZ التي أطلقها الرئيس أردوغان للتضامن داخل تركيا حتى صباح 6 إبريل/نيسان أكثر مليار و 450 مليون ليرة تركية.
وبما أن الزيادة في عدد الحالات أصبحت أمراً لا مفر منه و مقارنة بالأعداد في دول مثل إيطاليا (15 ألف وفاة من أصل 124 ألف إصابة) وبريطانيا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا وفيما تعتبر تركيا من أكثر الدول استقبالاً للسياح في الشرق الأوسط وعلى مستوى عالمي، فقد كانت تخوفات من سرعة انتشار الفيروس فيها، ولكن من خلال ما سبق من إجراءات تبدو إدارة أزمة كورونا في تركيا إدارة جيدة ومتناسبة حتى الآن، وأبقت انتشار الفيروس تحت السيطرة حتى مع ارتفاع الأرقام، ولا تزال تتخذ إجراءات تقييدية تدريجية لمنع تفشي الفيروس.
وبخصوص نسبة الزيادة فالأرقام تدل على أن الفيروس لا ينتشر بسرعة كبيرة إذ إن الرقم وصل إلى 27 ألف حالة، 1300 منهم يتلقون العلاج في غرف العناية المركزة، 570 حالة وفاة بعد قرابة شهر على اكتشاف الحالة الأولى.
وتعتبر خطوة إلزام ارتداء الكمامات للمواطنين خطوة جيدة يرجح أن تساهم في خفض الإصابات، إذ أثبتت بعض الدول مثل التشيك وسلوفانيا تراجعاً في الإصابات بعد إلزام المواطنين بارتداء الكمامات كما أشارت إلى ذلك عدة دراسات. ولعل مبادرة تركيا بتوزيع الكمامات مجاناً على المواطنين وتوصيلها إلى عناوينهم تساهم في التزام المواطنين إياها.
حافظت تركيا من خلال الإجراءات المتناسبة مع تهديد الفيروس على احتوائه نسبياً، وفي الوقت نفسه استمرار عجلة الاقتصاد ومنع أرقام البطالة من الصعود بقوة. ووفرت الغذاء والاحتياجات الأساسية من دون إحداث بلبلة أو اضطراب للمواطنين بل رفعت مستوى المعنويات لمواطنيها.
فبدلاً من أن تكون متلقية للمساعدات، وجهت تركيا مساعدات إلى 17 دولة على رأسها إيطاليا وإسبانيا. ولا تزال الدولة تحث المواطن على التزام التعليمات والبقاء في البيوت. ومن المرجح أن تستمر الدولة في مواجهة الفيروس بإجراءات متناسبة مع التطورات. وإذا استطاعت تركيا عبور هذه الأزمة بهذه المعايير كدولة وبالتزام المواطن التركي، فسوف تترتب على ذلك آثار محلية ودولية تؤهلها للاستفادة من كونها عبرت أزمة خطيرة بأقل الأضرار.