إذ تتم مراجعة السياسات والقرارات التي اتخذتها الإدارة الأمريكية وتسليط الضوء على تبعاتها، ويعتبر قرار الإبقاء على القوات الأمريكية في سوريا أحد القرارات التي يدور الجدل حولها في كل مرة.
تأتي الانتخابات النصفية الأمريكية اليوم ونحن على بعد نحو سبع سنوات من وصول أول جندي أمريكي إلى الأرض في سوريا، وهو توقيت مهمّ لطرح الأسئلة حول اللحظة المناسبة لواشنطن لسحب قواتها من سوريا، وهل ما زال الوجود العسكري الأمريكي في سوريا يشكّل رصيداً استراتيجياً أم إنها نقطة ضعف؟
مؤخراً نُشر مقالان مهمان حول هذه المسألة، الأول كتبه كريستوفر الخوري الذي سبق وعمل مستشاراً لسياسة العراق وسوريا مع مكتب المبعوث الرئاسي الخاص للتحالف العالمي لهزيمة داعش من يناير/كانون الثاني 2017 إلى ديسمبر/كانون الأول 2019. كما عمل مؤخراً مستشاراً أول للسياسات في معهد توني بلير للتغيير العالمي.
والثاني كتبه جيمس جيفري، وهو رئيس برنامج الشرق الأوسط في مركز ويلسون، وكان ضابطاً في السلك الدبلوماسي في سبع إدارات أمريكية، وشغل منصب الممثل الخاص للعمل في سوريا ومبعوثاً خاصّاً للتحالف الدولي لهزيمة داعش.
يتبنى الخوري وجيفري رأيين مختلفين حول طبيعة ومستقبل الوجود الأمريكي في سوريا، ويمثل كل منهما توجهاً معيَّناً لدى المستشارين والمسؤولين وصناع القرار في الإدارة الأمريكية من المعنيين بالتعامل مع ملفات وقضايا الشرق الأوسط.
يتبنى كريستوفر الخوري الرأي القائل إن الولايات المتحدة حقّقَت بالفعل الهدف الرئيسي من وجودها في سوريا، وهو القضاء على ملاذ آمن لتنظيم داعش، إذ تشير التقارير إلى تراجع كبير في عدد ونوعية العمليات التي ينفذها التنظيم.
وبناءً عليه يفترض الخوري أن الخطوة الطبيعية المقبلة للولايات المتحدة يجب أن تكون الانسحاب المنسَّق والسريع من سوريا مع الحفاظ على القدرة والصلاحيات اللازمة للولايات المتحدة للتحرك بحرية في الأجواء السورية وحماية "الشركاء" السوريين الذين قاتلوا إلى جانب الولايات المتحدة وساعدوها على تحقيق أهدافها، بحسب وصفه.
وهو هنا يقصد مليشيا PYD الإرهابية والتنظيمات والتشكيلات التي تتبعها أو ترتبط بها.
في المقابل يعارض جيمس جيفري هذا الرأي ولا يعتبره صائباً، مستنداً إلى طرح مفاده أن انسحاب الولايات المتحدة من سوريا لن يعزّز الاستقرار، بل على العكس سيتسبب بزعزعة الاستقرار لعدة أسباب.
يتفق جيفري والخوري على استحضار تجربة انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان ويتفقان على أنها كانت فوضوية وذات أثر مزعزع للاستقرار وأنها تسببت في صدمة على الصعيد العالمي وأرسلت إشارات تفيد بفشل الولايات المتحدة.
ولكنهما يختلفان في احتمالية تكرار نفس التبعات في سوريا، كما يجادل جيفري بأن الولايات المتحدة عندما انسحبت من أفغانستان كانت قد انتهت بالفعل من مهمتها ولم يعُد هناك ما يستوجب بقاءها، فيما في سوريا، حسب رأي جيفري، فإن الولايات المتحدة لا يزال لديها الكثير من المصالح الاستراتيجية على مستوى سوريا وعلى مستوى الإقليم.
ويعتبر جيفري قرار ترامب الانسحاب من سوريا -الذي لم يُطبَّق فعلياً- والضجة التي أثارها في وقتها، نموذجاً مصغَّراً للتبعات السلبية التي يمكن أن يُحدِثها قرار انسحاب الولايات المتحدة من سوريا الآن.
من ناحية أخرى يرى جيفري وغيره من المعارضين لفكرة الانسحاب الأمريكي من سوريا أن الأثر السلبي لهذا الانسحاب أو مجرد تراخي الولايات المتحدة في التزاماتها المتعلقة بتحقيق الاستقرار في سوريا، لن يقتصر على التبعات الفوضوية والانطباع السيئ عن فشل نهج الولايات المتحدة فحسب، بل سيتعداها ليؤثر في المصالح الإقليمية للولايات المتحدة.
إذ يعتقد جيفري أن انسحاب الولايات المتحدة من سوريا الآن سوف يقوّي روسيا ويعطيها مساحة أكبر للضغط على تركيا وعلى إسرائيل لكي ينسحبوا بدورهم من سوريا، وهو ما سينتهي إلى سيطرة نظام الأسد على كامل سوريا، مما سيمنح روسيا وإيران نصراً استراتيجياً.
وبالتالي فإن الانسحاب من سوريا -من وجهة نظر المعارضين له- سيعني تحويل عملية فعالة نسبياً، داخل سوريا، تعتمد في فاعليتها على 900 جندي فقط -لم يُقتل أي منهم منذ ما يقرب من أربع سنوات- إلى جهد خارجي، محدَّد التوجه بتنظيم داعش فقط، يتم تفعيله بالتنسيق مع مجرم حرب مسؤول عن قتل وتشريد ملايين السوريين.
أحد أهمّ الدوافع التي يستند إليها المؤيدون للانسحاب من سوريا، يتعلق بدور المليشيات التابعة أو المرتبطة بإيران والتي تتعامل مع الوجود الأمريكي في سوريا كهدف لعملياتها المتكررة -تماماً كما تفعل في العراق وأماكن أخرى في المنطقة- فيما يُصِرّ المعارضون للانسحاب على أنّ تراجع الولايات المتحدة سيشجّع إيران وأذرعها بدلاً من ردعها.
وبالعودة إلى أهداف الولايات المتحدة من الوجود في سوريا والمهمة المنوطة بها، يربط المعارضون للانسحاب بين وجود الولايات المتحدة والمساعدة على وقف الحرب الدائرة في سوريا وحماية ملايين السوريين النازحين من انتقام الأسد، وتحقيق التسوية السياسية التي أقرَّها مجلس الأمن في قراره رقم 2254، الذي يتضمن وقف إطلاق النار والانتقال السياسي، والمفاوضات مع المعارضة من أجل وضع دستور جديد.
علاوة على ذلك، فإن الانسحاب الأمريكي -برأي المعارضين- لن يعالج نفوذ إيران المتزايد داخل المؤسسات السورية ونصبها لأنظمة صواريخ تهدد إسرائيل، والأمر نفسه بالنسبة إلى الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي، والمخاوف الأمنية المختلفة لتركيا، وسيظلّ الشركاء من مليشيا PYD الإرهابية، تحدِّياً ملحّاً للولايات المتحدة.
يمكن القول إنه يوجد اليوم آراء مختلفة بخصوص الوجود الأمريكي في سوريا، حيث يتبنى أغلب المستشارين والمسؤولين والمقربين من الإدارة الأمريكية الرأي الذي يدفع باتجاه استمرار وجود هذه القوات ويعتبر دورها أساسياً في حفظ الاستقرار.
ورغم تركيز الرئيس بايدن وفريقه على مهمة محاربة تنظيم داعش الإرهابي كهدف أساسي للوجود الأمريكي في سوريا، فإن المؤيدين لاستمرار هذا الوجود يتوسعون في أهدافه ويجادلون بأن وجود هذه القوات والدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في تنسيق العمليات مع تركيا من جهة ومع إسرائيل من جهة أخرى، بالإضافة إلى الحلفاء المحليين من مليشيا PYD، كل هذا هو ما يمنع سيطرة الأسد على كل سوريا، ويسمح ببقاء نصف سكان سوريا و30% من أراضيها، بما في ذلك الكثير من أراضيها الصالحة للزراعة ومعظم موارد الطاقة، خارجة عن سيطرته، بحسب رأيهم.
كما يَعتبر هذا الفريق من المؤيدين لبقاء القوات الأمريكية في سوريا، أن المفاوضات التي خاضتها الولايات المتحدة مع روسيا في عام 2019 على أساس قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254، على الرغم من أنها لم تحظَ باهتمام الروس فإنها نجحت باستمرار تجميد النزاع، باستثناء التقدم الطفيف للنظام في مارس/آذار 2020، ويعتبر هذا الفريق أيضاً أن محاولات الدول العربية في الحد من عزلة الأسد لم تلقَ تفاعلاً مناسباً من طرف النظام في سوريا بسبب الوجود الأمريكي الذي لم يجمد فقط أدوات الحرب، بل وجمَّد قدرة النظام على التعامل مع محيطه إلى حد ما.
فيما يرى المعارضون لاستمرار الوجود الأمريكي في سوريا أن مهمة هذه القوات انتهت مع إضعاف تنظيم داعش ومقتل معظم قياداته وتَشتُّت مجموعاته وفقدانها الدعم المادي والبشري، وينظرون إلى بقاء القوات الأمريكية في سوريا على أنه مصدر قلق وتهديد، ويرون في الوضع الراهن مخاطر كبيرة.
فساحة المعركة في سوريا معقدة، إذ توجَد القوات الروسية والسورية والأمريكية متقاربة، مما يزيد احتمالية اصطدام بعضها ببعض في أي لحظة.
وفي الوقت نفسه، يوجد ارتفاع كبير في هجمات المليشيات المدعومة من إيران التي تستهدف المواقع الأمريكية، بالتزامن مع تجدُّد التهديد بتوغل عسكري تركي موجَّه ضد المليشيات المدعومة من الولايات المتحدة. لذلك تحتاج إدارة بايدن -برأيهم- إلى إعادة النظر في استمرار الوجود العسكري الأمريكي في سوريا وضرورته وجدواه، والتفكير في انسحاب سريع ومنسَّق من سوريا.
بالطبع لا تؤيد آراء أخرى الانسحاب الكامل ولا استمرار الوجود بالشكل الحالي، وإنما تطرح إعادة النظر في عدد وطبيعة عمل هذه القوات والمهامّ المنوطة بها، ولكن هذا النوع من التوجهات لا يلقى اهتماماً أو تفاعلاً حقيقيين، لأنه يتطلب تركيزاً واهتماماً استثنائياً من طرف الولايات المتحدة وإعادة صياغة للعديد من التفاهمات، في وقت يتجه فيه تركيز وأولوية الولايات المتحدة إلى تحديات عالمية أخرى أكبر وأخطر -من وجهة نظر الولايات المتحدة- من الوضع في سوريا.
أما تركيا -وهي أحد أهمّ المعنيِّين بحجم وطبيعة الوجود الأمريكي في سوريا- فلطالما وضّحَت رغبتها في الانسحاب الأمريكي من المنطقة، وكان من أبرز هذه التصريحات تصريح الرئيس أردوغان نفسه في يوليو/تموز الماضي عندما دعا القوات الأمريكية إلى مغادرة مناطق شرقي نهر الفرات في سوريا، مبينا أنه بمجرد انسحابها ستصبح مكافحة الإرهاب أسهل، وعلّل الرئيس ذلك باستمرار الولايات المتحدة في دعمها للتنظيمات الإرهابية، بآلاف الشاحنات المحملة بالسلاح والمعدات والذخيرة.