يصف الخبراء العسكريون هذا المدفع النادر بأنه سيكون "سلاح المستقبل" الأقل حجماً والأكثر تدميراً للعدو براً وبحراً وجواً.
فبالتوازي مع مشاريع صناعة مدفع كهرومغناطيسي المتواصلة في عدد قليل جداً من دول العالم وأبرزها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين، تواصل تركيا برامجها لصناعة مدفع كهرومغناطيسي وتطويره، وأبرزها مشروع صناعة مدفع أطلق عليه اسم شاهي 209 (ŞAHİ 209 Blok 2) وآخر أطلق عليه اسم طوفان (TUFAN)، إذ وصل المشروعان إلى مراحل متقدمة وبمواصفات تتخطى بعضها تلك التي توصلت إليها الجهات القائمة على المشاريع المماثلة في الدول الأخرى.
ويطلق خبراء الأسلحة حول العالم على المدافع الكهرومغناطيسية مصطلح "سلاح المستقبل"، لما تتمتع به من مميزات غير تقليدية وتقنيات تمثل ثورة في عالم الأسلحة، فالقذائف تتميز بحجم ووزن صغيرين جداً، وسرعة فائقة تتجاوز سرعة الصوت في ضرب الأهداف، وقدرة تدميرية هائلة ومختلفة للأهداف البرية والبحرية، إلى جانب إمكانية تطويرها لتصبح سلاحاً للدفاع الجوي وتدمير الأهداف الجوية من طائرات وصواريخ موجهة، ومن ثم يتوقع أن تحل أنظمة المدافع الكهرومغناطيسية محل الأسلحة النارية التقليدية في المستقبل.
الأسلحة الكهرومغناطيسية
في الوقت الذي تتسابق فيه كثير من الدول حول العالم في إنتاج الأسلحة التقليدية للحفاظ على تفوقها العسكري ومجابهة التحديات العسكرية المتعاظمة حول العالم، تتجه قليل من الدول إلى استشراف المستقبل وصناعة أسلحة غير تقليدية تضمن لها التفوق مبكراً في سباق التسلح المتواصل عبر العصور، وحجز مقعد متقدم في عالم الأسلحة والصناعات الدفاعية، ومن هذا المنطلق بدأ عدد من الدول حول العالم المحاولات والتجارب لصناعة مدافع كهرومغناطيسية.
والمدفع الكهرومغناطيسي (railgun) جهاز يستخدم لإطلاق قذائف كهرومغناطيسية، مشعل كهربائياً مؤسس على مبادئ مماثلة للمحرك أحادي القطب، ويتكون المدفع من زوج من القضبان المتوازية مع عضو إنتاج منزلق مسارع بواسطة التأثيرات الكهرومغناطيسية لتيار يتدفق عبر قضيب واحد داخل عضو الإنتاج، ومن ثم يرجع للقضيب الآخر. ومن أبرز معضلاته أنه يحتاج إلى كمية طاقة هائلة، ومن ثم يكون حجمه كبيراً جداً وصعب النقل.
ولتبسيط الأمر فالأسلحة التقليدية كالصواريخ والقذائف والرؤوس الحربية والطلقات الكيميائية تظهر لدى العدو على شكل انفجار وحروق وتدمير، أما الأسلحة الكهرومغناطيسية فتستخدم الدفع الكهرومغناطيسي الناتج عن الطاقة الكهربائية بدلاً من البارود أو المواد الدافعة والمتفجرة الكيميائية، وتحقق إطلاق قنابل بسرعة تفوق سرعة الصوت بأضعاف.
ويوصف نظام المدفع الكهرومغناطيسي بـ"التكنولوجيا الدفاعية المستقبلية المغيرة لموازين القوى" والذي لا يحتاج إلى بارود، ويعتمد المجال المغناطيسي الناتج عن التيار العالي على دفع الذخيرة أو المقذوفات بسرعات عالية للغاية، مثل 6 أضعاف سرعة الصوت.
واستخدام الكهرباء بدلاً من الوقود المتفجر للإطلاق يوفر سهولة في النقل والإمداد، وسهولة الاستخدام وأمن التشغيل والتخزين، وهو يمكن أن يطلق النار على سرعات تفوق سرعة الصوت بتكلفة منخفضة للغاية مقارنة بأنظمة البارود التقليدية، ومن ثم يوفر سرعة أكبر للوصول إلى الهدف، ما يصعب اكتشافه أو مواجهته من قبل الأنظمة الدفاعية ويحقق قوة تدميرية أكبر.
في المدافع الكهرومغناطيسية يتم استخدام الإشعاع الكهرومغناطيسي بالترددات الفائقة، حيث يعمل إشعاع المدفع الكهرومغناطيسي في جزء من الثانية على تسخين الجسم المصاب إلى درجات حرارة عالية للغاية، وعلى عكس أنظمة الحرب الإلكترونية التي يمكن أن تخرب إلكترونيات العدو بمساحة محددة، فإن السلاح الكهرومغناطيسي يمكنه تدمير إلكترونيات العدو بشكل كامل وبقوة تدمير واسعة.
وتقول التقديرات الروسية إن الحاجة إلى كميات كبيرة من الكهرباء لا تزال المشكلة الرئيسية في هذه الأسلحة، لذلك لن يكون من الممكن إنشاء مجمع كهرومغناطيسي هجومي متنقل في المستقبل القريب، لكن الشركات التركية توصلت إلى نموذج أولي لمدفع بحجم معقول يتم نقله عبر عربة جر كبيرة، وظهر ذلك واضحاً فيالصور التي نشرت لتجريب مدفع شاهي التركي.
سباق عالمي
تعود بدايات التجارب على الأبحاث الكهرومغناطيسية إلى عام 1918، حيث أجريت العديد من الأبحاث والتجارب ومشاريع تطوير استخدام الطاقة الكهرومغناطيسية وصناعة منصات إطلاق يمكن أن تتحول لاحقاً إلى مشاريع عسكرية وصناعة مدافع، لكن المشاريع المحددة أكثر والتي اقتربت بالفعل من تطوير مدافع كهرومغناطيسية أنجزت في العقدين الأخيرين، وذلك عبر مشاريع واعدة تفوقت فيها أربع دول بشكل خاص وهي أمريكا وروسيا والصين وتركيا.
بدأ القطاع الخاص في تركيا أبحاث تطوير مدفع كهرومغناطيسي عام 2013 بالاعتماد على الإمكانيات المحلية، ومنذ ذلك الوقت استطاعت تركيا ابتكار نماذج مختلفة، وعقب مئات الاختبارات المختلفة، بعضها توقف والآخر نجح في الوصول إلى مراحل متقدمة ونجح في إطلاق ذخائر متنوعة، انتقل عدد من هذه المشاريع بدعم من رئاسة الصناعات الدفاعية إلى مراحل تطوير متقدمة تتعلق بقوة الذخائر ومدى الإطلاق وحجم التأثير والتدمير.
تعد الصين من أبرز الدول التي تمتلك برنامجاً لتطوير مدفع كهرومغناطيسي، ويعتقَد أنها وصلت إلى مراحل متقدمة، إذ ظهرت صورة لمدفع كهرومغناطيسي مثبت على سفينة حربية صينية، وحذرت صحف أمريكية من أن الصين ربما تحقق تقدماً أسرع من الذي حققته الولايات المتحدة في هذا المجال، محذرة من أنها قد تحقق تفوقاً عسكرياً على واشنطن لا سيما فيما يتعلق بالقوات البحرية.
وتنشر الصحافة الروسية تباعاً عن نجاح موسكو في تطوير عدة نسخ من المدافع الكهرومغناطيسية التي تقول إنها حققت نجاحاً باهراً في اختراق كل الدروع. وتقول تقارير روسية إن شركات مجمع الصناعات الدفاعية نجحت في صناعة صاروخ كهرومغناطيسي قوي له وحدة قتالية مع مولد طاقة كهرومغناطيسية عالية القدرة، باستطاعتها تغطية مساحة 3.5 كيلومترات بضربة واحدة، وتعطيل جميع الأجهزة الإلكترونية وتحويلها إلى خردة.
كما تعمل الولايات المتحدة على مشاريع مختلفة في هذا المجال، وبينما تؤكد الصحافة الأمريكية أن واشنطن وصلت إلى مراحل متقدمة، تحاول المصادر الروسية والصينية التشكيك في ذلك والتأكيد أن بلادها وصلت إلى مراحل متقدمة أكثر، لكن السرية التي تضعها الدول الثلاث على برامجها تجعل من الصعب الجزم بالجهة التي حققت بالفعل تقدماً أكبر في هذا المجال.
مدفع طوفان التركي
شركة أسيلسان أبرز شركات الصناعات الدفاعية التركية بدأت منذ عام 2014 في برنامج لصناعة مدفع كهرومغناطيسي "ريلغان" وأطلقت عليه اسم "TUFAN"، وبدأ أول اختبار عليه عام 2016. وبعد أن حقق نجاحاً لافتاً بدأت عمليات تطوير المدفع وصولاً إلى تحقيق رقم قياسي في أحدث الاختبارات التي أثبتت وصول المدفع إلى مرحلة متقدمة في سرعة إصابة الهدف ودقتها.
وفي السابق حقق المدفع سرعة إصابة هدف تتراوح ما بين 2000 و2500 متر في الثانية، وهو ما يفوق سرعة الصوت بنحو ستة أضعاف، قبل أن يتم تطويره عام 2018 لتتجاوز سرعته 3000 متر في الثانية الواحدة، ما يعني نحو تسعة أضعاف سرعة الصوت، وهو يعادل أيضاً نحو ثلاثة أضعاف أسرع الأسلحة التقليدية التي تستخدم البارود.
مدفع شاهي التركي
وبالتوازي مع مشروع مدفع "طوفان" الذي تعمل عليه شركة أسيلسان، عملت شركة "Yeteknoloji" التركية على مشروع آخر لمدفع كهرومغناطيسي أطلق عليه اسم "ŞAHİ 209". إذ تعمل شركة Yeteknoloji على إيجاد حلول محلية وتصميمات أصلية حول تقنية المدفع الكهرومغناطيسي، على المدفع الكهرومغناطيسي، والمنجنيق الكهرومغناطيسي وأنظمة التكنولوجيا المتقدمة.
وعام 2019 اختبرت الشركة بنجاح أحدث نسخة من مدفعها الذي أطلق عليه (ŞAHİ 209 Blok 2)، ويستطيع إطلاق قذائف يصل وزنها من 35 ملم إلى كيلوغرام وعلى بعد 50 كيلومتراً. ويمكن استخدام المدفع الكهرومغناطيسي (الريلغان) في فروع الجيش المختلفة، البرية والبحرية والجوية، وظهرت منصة الإطلاق كبيرة الحجم وتتألف من برج كبير مثبت على مقطورة جر.
وحصل مدفع شاهي على الموافقة الرسمية من قبل رئاسة صناعات الدفاع عام 2018، وهو مزود بوحدة طاقة نبضية بسعة 1 ميجاجول، مع ذخيرة وزنها 300 غرام وبمدى 10 كيلومترات يمكن أن تكون فعالة في نطاق 50 كم، مع وحدة طاقة قصوى بقدرة 10 ميجاجول، وتستعد الشركة لإجراء أول اختبار لمدفع شاهي يجري تركيبه على إحدى السفن الحربية التركية، لتكون تركيا ثالث دولة في العالم تخوض هذه التجربة بعد أمريكا والصين.
واسم المدفع "شاهي" مستمد من اسم المدفع العملاق الذي صنعه الجيش الإسلامي للمساعدة في فتح إسطنبول واختراق أسوار القسطنطينية التي كانت حائط صد هائلاً أمام فتح المدينة، ورغم أنه كان مدفعاً بدائياً من الإسمنت والحديد فإنه مثّل ثورة في الصناعة والاستراتيجيات العسكرية، ويعتبره مؤرخون أول سلاح دمار شامل أو أول الأسلحة الخارقة.
وفي العقدين الأخيرين باتت تركيا من الدول الرائدة عالمياً في صناعة الأسلحة، وبحسب أحدث تصريح لرئيس الصناعات الدفاعية التركية إسماعيل ديمير فإنه خلال الفترة 2002 ـ 2020 ارتفع عدد الشركات التركية العاملة في مجال الصناعات الدفاعية من 56 إلى 1500، وزاد حجم القطاع من مليار دولار إلى 11 ملياراً. وفي يوليو/تموز الماضي أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن الاعتماد على الخارج في مجال الصناعات الدفاعية تراجع من 70 إلى 30 بالمئة.