مع استمرار الاجتياح البري لغزة، تلعب الأنفاق دوراً عسكرياً مهماً للمقاومة الفلسطينية في تصدّيها لزحف جيوش الاحتلال، وتمكينها من عنصر المفاجأة تبعاً لنسق حرب العصابات الذي تعتمده. وهو ما جعل تدمير هذه الأنفاق أحد الأهداف الرئيسية للجيش الإسرائيلي في حربه.
وأفادت تقارير إعلامية، بأن إسرائيل بدأت بالفعل في تدمير هذه الأنفاق، عبر ضخ كميات كبيرة من مياه البحر إلى داخلها. وهو ما سيتسبب في كارثة بيئية خطيرة قد تضرب القطاع ويمتد ضررها لعقود طويلة.
إغراق أنفاق غزة
نشرت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، يوم الثلاثاء، تقريراً تعلن فيه أن إسرائيل بدأت بالفعل إغراق أنفاق المقاومة الفلسطينية في غزة. ونقلت عن مسؤولين أمريكيين مطّلعين على عمليات الجيش الإسرائيلي، بأن هذا الإجراء يأتي بهدف تدمير البنية التحتية التي تستخدمها المقاومة في عملها.
ورفض المتحدث باسم وزير الدفاع الإسرائيلي التعليق على الموضوع لصحفي وول ستريت، محتجاً بأن عمليات إغراق الأنفاق سرية.
وقبل هذا، في الرابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري، كشفت الصحيفة نفسها الأمريكية، عن أن جيش الاحتلال الإسرائيلي قام بتجميع نظام ضخم من المضخات، من أجل إغراق شبكة أنفاق المقاومة الفلسطينية، وذلك بهدف تدمير هذه البنيات وطرد المقاومين المتحصّنين فيها.
وأضافت وول ستريت جورنال، أن الجيش الإسرائيلي، في منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، قد انتهى من تجميع خمس مضخات مياه كبيرة، على بعد ميل تقريباً شمال مخيم الشاطئ شمال القطاع. وبحسبها، فإن لكل مضخة من هذه المضخات قدرة على سحب آلاف الأمتار المكعبة من مياه البحر في الساعة، ما يؤدي إلى إغراق الأنفاق في غضون أسابيع.
وفي مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كانت أول مرة تبلغ فيها القيادة الإسرائيلية نظراءها من الولايات المتحدة بخيار إغراق الأنفاق. ونفى مسؤولون أمريكيون وقتها علمهم بمدى تقدّم إسرائيل في تنفيذ هذا الخيار، كما نفوا علمهم حول إذا ما كانت قد اتخذت قراراً نهائياً بتنفيذه.
كارثة بيئية خطيرة
في عام 2016، وفي خطاب ألقاه في أثناء فاعلية لتشييع شهدائها، قال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، إن غزة "صنعت أنفاقاً للمقاومة ضعف أنفاق فيتنام التي تدرّس في المدارس العسكرية، والتي يقرأ عنها العسكريون، ويخطط من خلالها الاستراتيجيون".
واستناداً إلى هذا القول، وعلماً أن أنفاق فيتنام فاقت الـ170 ميلاً، أي نحو 273.5 كيلومتر، بالتالي فإن شبكة أنفاق غزة يتعدى طولها 547 كيلومتراً. وهو ما يعني أن هناك مدينة كاملة مبنية تحت أرض القطاع، بعمق يصل إلى 30 متراً.
وتنذر عمليات إغراق هذه الأنفاق بكارثة بيئية على أهالي القطاع، وقد تمتد لعقود طويلة بعد الحدث. وبحسب الخبير البيئي ومدير مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين، السيد عبد الرحمن التميمي، فإن إغراق أنفاق المقاومة "سيجعل من القطاع منطقة غير قابلة للعيش حتى 100 عام".
وحول إمكانية وقوع هذه العملية، أوضح التميمي بأن "الأمر ليس سهلاً، بل معقد، ولكنه في الوقت نفسه غير مستحيل"، وأن "إسرائيل بحاجة إلى 40 يوماً لإغراق الأنفاق التي يصل طولها بحسب ما هو متعارف عليه إلى 450 كيلومتراً" .
وحذَر مدير الهيدرولوجيين الفلسطينيين من أنه "إذا نجحت إسرائيل في مخططها فسيؤدي ذلك إلى كوارث بيئية متعددة أولها تلوث المياه الجوفية الملوثة أصلاً، وسيؤدي تراكم الملح إلى قتل التربة بشكل كبير، ويتسبب بذوبانها، الأمر الذي يؤدي إلى انهيارات في التربة ما يعني هدم آلاف المنازل الفلسطينية في القطاع المكتظ بالسكان".
وأردف التميمي: أنه "إذا تلوثت المياه والتربة فسيصبح الإنسان حبيس التلوث بكل أشكاله من مياه الشرب، ومنتجات زراعية تؤدي إلى آثار بيئية على الصحة".
بينما لم تقتصر هذه التحذيرات على الخبراء الفلسطينيين فقط، بل حتى خبراء الاحتلال حذّروا من الكارثة نفسها. وحسب البروفيسور إيلون أدار، من معهد زوكربيرج لأبحاث المياه في جامعة بن غوريون في النقب، فإن "إغراق الأنفاق سيتسبب في المزيد من الأضرار البيئية لطبقة المياه الجوفية في غزة".
وأردف في تصريحات لـ"جيروزاليم تايمز"، بأنه "كمواطن، وعلى الرغم من الكارثة التي مررنا بها في 7 أكتوبر/تشرين الأول، ما زلت أعتقد أنه على المدى الطويل –وعلينا أن نفكر في المستقبل– سيكون من غير الصحيح سياسياً وأخلاقياً أن يكون لدينا جار عطشان".
"يريدون جعل غزّة غير قابلة للعيش!"
ومنذ إطلاق عدوانه على غزة، يرتكب الاحتلال الإسرائيلي جرائم فظيعة في حق أهالي القطاع، بالإضافة لجرائم بيئية عدة، بداية من استخدام الأسلحة المحرمة دولياً كالفسفور الأبيض، والتي تلوث بقاياها التربة وموارد المياه. إلى منع إخراج الجثث من تحت الأنقاض ودفنها بشكل لائق، ما يهدد بانتشار الأوبئة والأمراض.
كما قد يتسبب تراكم الردم وعجز سلطات القطاع على إزاحته من المناطق السكنية، في مشكلات صحية خطيرة على السكان، من بينها التسمّم بمادة الأسبستوس، التي تتسبب بداء التليّف الرئوي.
وإضافة إلى هذا، ومع اجتياحها القطاع، تسببت القوات الإسرائيلية في تجريف عدد من الأراضي الزراعية وتلويثها بوقود الآليات العسكرية والذخائر التي لم تنفجر.
بينما كل هذه الجرائم البيئية تصب في منحى واحد، وهو جعل قطاع غزة منطقة غير قابلة للعيش. وهو ما تؤكده الدكتورة الفلسطينية منى دجاني، في حديثها لـTRT عربي، قائلة: "هناك هدف إسرائيلي واضح من خلال كل هذه الهجمات الشرسة، هو أن تحول قطاع غزة إلى مكان غير قابل للعيش".
وتضيف الخبيرة في الشأن البيئي، بأن "استهداف الجيش الإسرائيلي للمستشفيات، واستهدافهم لخزانات المياه، والخلايا الشمسية التي كانت توفر طاقة بديلة بعيداً عن مصدر الكهرباء في إسرائيل، ومجرّد قطعها للوقود والمياه والكهرباء على القطاع، يظهر أن الهدف هو تفريغ غزة من سكانها وتحويلها إلى مكان لا يمكن العيش فيه".
وتشير دجاني إلى أن هذا المخطط ليس وليد اليوم، بل إن "إسرائيل، وعبر السنوات الطويلة من الحصار الذي فرضته على غزة، حولت القطاع إلى مكان بيئي غير قبل للسكن فيه، إذ يوجد الكثير من المشكلات البيئية التي يمكنها أن تتفاقم بشكل سريع؛ على سبيل المثال الأمراض المتناقلة بسبب شح المياه أو سوء الجودة، وضعف معالجة مياه الصرف الصحي بفعل عدم وجود الكهرباء بشكل مستمر...".
وبالتالي، تخلص الدكتورة الفلسطينية، إلى أن "المدى الزمني لهذه الأضرار البيئية مستمر؛ وكلما كان هناك عدوان على غزة، ظل القطاع قابعاً تحت حصار مطبق، لا يمكننا أن نتحدث عن نطاق زمني محدود لهذا الضرر".