بينما توسع إسرائيل من حملة الإبادة الجماعية على مرأى ومسمع العالم أجمع، يشرع اللوبي الصهيوني سلاح "معاداة السامية" بوجه كل من يبدي تعاطفاً مع الفلسطينيين وما يمرون به من محن. إذ لا يزال "الابتزاز الأخلاقي" الوسيلة الفضلى بيد جماعات الضغط الصهيونية لخنق أي نقاش حول إسرائيل وجرائمها في الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية.
ومع دخول العدوان على غزة شهره الثالث، تنامت حملة القمع التي تلاحق آلاف الفنانين والعلماء والمثقفين الذين يتعاطفون مع الفلسطينيين، إذ يجري طردهم من أماكن عملهم ويواجهون تهديدات بسبب التحدث علناً. ولعل ما حصل في كبرى الجامعات الأمريكية لهو أكبر دليل على نفوذ اللوبي الصهيوني وقدرته على ابتزاز كل من تخوّل له نفسه المطالبة بالمساواة وتفعيل حرية الرأي والتعبير.
ماذا حصل في جامعات أمريكا الكبرى؟
في ذروة الابتزاز الذي يمارسه اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، استجوب رؤساء 3 أقوى وأشهر الجامعات الأمريكية بحجة الارتفاع الحاد في معاداة السامية في الحرم الجامعي. فقد استدعت لجنة عقدها الكونغرس في 5 ديسمبر/كانون الأول الجاري كلاً من رئيسة جامعة بنسلفانيا إليزابيث ماغيل، ورئيسة جامعة هارفارد كلودين غاي، ورئيسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) سالي كورنبلوث إلى جلسة "محاسبة رؤساء الجامعات ومكافحة معاداة السامية".
وبينما شبّه عدد من أعضاء اللجنة دعوات بعض الطلاب المتظاهرين بالتحريض على "ارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب اليهودي في إسرائيل والعالم"، أمضت رئيسات الجامعات الثلاث ساعات في التوضيح بأن هذه المظاهرات تندرج تحت عنوان حرية الرأي، مشيرات في الوقت عينه إلى الإجراءات التأديبية ضد الطلاب بشأن القضايا المتعلقة بمعاداة السامية، وكيف تمثل الجامعات وجهات نظر مختلفة، والأمن في الحرم الجامعي.
لكن هذه الإجابات، وبالأخص إجابة غاي لم تكن مقنعة للجنة، التي طالبتها بالاستقالة. وعقب ذلك اجتمع أكثر من 500 عضو هيئة تدريس في جامعة هارفارد لدعم غاي موقعين على عريضة تدعو إلى "أقوى مقاومة ممكنة للضغوط السياسية التي تتعارض مع الحرية الأكاديمية في هارفارد"، بحسب الأناضول.
كما أعلن رؤساء سابقون لجامعة هارفارد دعمهم للرئيسة الحالية كلودين غاي، التي أعلنت استقالتها إثر تعرّضها لانتقادات إثر اعتبارها أن المظاهرات المؤيدة لفلسطين تدخل ضمن نطاق "حرية الفكر". وجاء ذلك في بيان مشترك نُشر على الحساب الرسمي للجامعة في منصة إكس، بإمضاء 5 رؤساء سابقين للجامعة.
إرهاب معنوي وابتزاز حاد
ومع تزايد مشاهدة الإبادة الجماعية وتزايد الانقسام حول الصراع في الولايات المتحدة، انتهك موقع Canary Mission -وهو موقع يقدم نفسه على أنه متتبع للخطابات المعادية للسامية ومعادية لإسرائيل والولايات المتحدة في حرم الجامعات في أمريكا- خصوصية كل من ينفي الرواية الإسرائيلية ويبدي تعاطفاً مع معاناة الفلسطينيين، وذلك من خلال تحميل الصور وروابط وسائل التواصل الاجتماعي والمعلومات الشخصية من أجل نشر نشاط المتهمين وإدراجهم في القائمة السوداء بهدف الإضرار بهم أمام أصحاب العمل المحتملين.
يذكر أن تهمة معاداة السامية ودعم الإرهاب ليست حكراً على الأشخاص المتعاطفين غير اليهود وحسب، بل طالت أيضاً علماء وباحثين يهوداً يحملون الجنسية الإسرائيلية، ولعل من أبرزهم نورمان فينكلستاين الذي ينحدر من أسرة يهودية فرت من الهولوكوست، والذي يرفض استغلال الصهيونية للهولوكوست مسوغاً لممارساتها ضد الفلسطينيين.
وسبق لإسرائيل أن أطلقت حملة إعلامية شرسة أيضاً ضد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للمطالبة بالاستقالة في أكتوبر/تشرين الأول عندما قال إن "هجمات حماس لم تأت من فراغ" وإن "الشعب الفلسطيني خضع على مدى 56 عاماً للاحتلال الخانق".
تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل مارست ضغوطاً مشابهة عندما نشرت منظمة العفو الدولية العام الماضي تقريراً تاريخياً جاء فيه أن إسرائيل ترتكب جريمة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، التي حاولت تل أبيب من خلالها نزع الشرعية عن المنظمة بناءً على مزاعم معاداة السامية.
حملة قمع ممنهجة
في حين أن التعاطف مع فلسطين كان منذ فترة طويلة موقف الأقلية في الولايات المتحدة، إلا أن المؤيدين يعاقبون بسبب التحدث علناً على مستوى جديد مثير للقلق، بينما يستمر العدوان الإسرائيلي على غزة. وفي الولايات المتحدة، دعمت أعلى مستويات السلطة منذ فترة طويلة الأصوات الداعمة لإسرائيل وجيشها. والآن، يخشى أنصار فلسطين أن تمثل الحرب فرصة لمؤيدي الحكومة الإسرائيلية لمواصلة سحق المعارضة في الولايات المتحدة.
وقد أدت المحاولات واسعة النطاق لقمع وجهات النظر المؤيدة للفلسطينيين في الولايات المتحدة إلى إلغاء المؤتمرات الكبرى، وأثارت مطالبات بفصل العمال الذين يعبرون عن دعمهم للفلسطينيين، وأدت إلى حملات تخويف ضد الأصوات العربية الأمريكية المنتقدة للسياسات الإسرائيلية.
وتقول ديالا شماس، المحامية في مركز الحقوق الدستورية غير الربحي، الذي يدعم الناشطين المؤيدين للفلسطينيين: "نحن نعلم أن المنظمات المتحالفة مع إسرائيل ستضغط من أجل الحصول على قوائم أمنياتها الكاملة". وتقول إن محامي حقوق الإنسان الفلسطينيين "يعرفون قواعد اللعبة" ويستعدون للهجوم.
من جهته، قال جوستين سادوسكي، المحامي في مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (كير)، إن الرد السريع ضد الأصوات المؤيدة للفلسطينيين يعتمد على عقود من الجهود المنظمة "لتشويه الخطاب الحقوقي الفلسطيني باعتباره مؤيداً للإرهاب أو معادياً للسامية". وقد وصف محامي الحقوق المدنية الراحل مايكل راتنر هذا الأمر بأنه "استثناء فلسطين لحرية التعبير"، وفقاً لما نقلته الغارديان.
وعن التكتيكات التي تستخدمها مجموعات الضغط المؤيدة لإسرائيل ومديري المدارس والموظفين العموميين لتهديد نشطاء حقوق الإنسان الداعمين للفلسطينيين، نشر مركز الحقوق الدستورية ومؤسسة فلسطين القانونية تقريراً في عام 2015 جاء فيه: "إن هذه الاتهامات شملت اتهامات كاذبة بمعاداة السامية أو دعم الإرهاب، وتهديدات قانونية وتحقيقات جنائية، وإنها نجحت في كثير من الأحيان في تخويف أو ردع نشطاء التضامن الفلسطيني من التحدث علناً".