شهد العالم طوال العقود الماضية أحداثاً وتحولات كبرى متلاحقة، لعل أبرزها الحروب والاضطرابات التي شهدتها الدول الإسلامية والعربية بشكل خاص في العقد الأخير، إلا أن كل ذلك لم ينجح في تغيير العادات والتقاليد والثوابت الدينية والاجتماعية الراسخة في شهر رمضان، على العكس تماماً من فيروس كورونا المستجد الذي تشير كل المعطيات إلى أنه سينجح في رسم شكل جديد للشهر الكريم لم يعهده الجيل الحالي ولا حتى من سبقه من أجيال.
فمع تصاعد انتشار فيروس كورونا المستجد وعدم التوصل بعد إلى لقاح له أو علاجات فعالة مضادة له، لا يتوقع حصول أي تغيير في قواعد الحجر الصحي التي تطبقها معظم دول العالم طيلة أيام شهر رمضان، وهو ما يعني أننا سنكون أمام مشهد معقد وغريب لم يعتد عليه أحد من قبل، وسنشهد تحولات دينية واجتماعية واقتصادية غير مسبوقة في طقوس رمضان.
فلا عمرة ولا طواف حول الكعبة، ولا صلاة تراويح في المسجد الأقصى، ولا صلوات جماعة ولا اعتكاف في المساجد كافة، ستتقلص زيارات رمضان وستختفي موائد الرحمن والعزائم والولائم، ولن تكون سهرات رمضانية وستتراجع بهجة أسواق رمضان، وتتقلص القدرة الشرائية نتيجة الأزمة الاقتصادية الحادة التي خلّفها انتشار كورونا وتوقُّف الحركة الاقتصادية حول العالم.
الطقوس الدينية
إن هول التحولات التي أحدثتها جائحة كورونا، دفع البعض إلى الحديث عن إمكانية إلغاء فريضة الصيام بحد ذاتها، وهو ما رفضته المراجع الدينية كافة، لا سيما رئاسة الشؤون الدينية التركية التي جددت تأكيد أن الصيام فرض على كل مسلم يتمتع بالصحة، وأنه لا يمكن تأجيل عبادة الصيام بشكل جماعي، وبينما شددت على أن المختصين علمياً أكدوا أن صيام من يتمتعون بالصحة لا يشكل عليهم أي خطر يتعلق بانتشار فيروس كورونا، أعادت التذكير بأن القرآن يبيح للمرضى عدم الصيام إذا كان الصيام يشكل خطراً على صحتهم.
ولأول مرة منذ عقود، لن يتمكن المسلمون من أداء العمرة في شهر رمضان، وهو ما يعني حرمان ملايين المسلمين من أداء العمرة، إذ تشير إحصائيات وزارة الحج والعمرة السعودية إلى أن 7.5 مليون أجنبي أدوا العمرة في رمضان عام 2019 يضاف إليهم ملايين المعتمرين من الداخل، وكان متوقعاً أن يؤدي عدد أكبر منه العمرة خلال شهر رمضان لهذا العام، هذا إلى جانب عدم إقامة صلاة الجماعة والتراويح في مساجد المملكة بما في ذلك المسجد الحرام والمسجد النبوي، حسب تصريح لمفتي المملكة عبد العزيز آل الشيخ.
وفي القدس، ثاني أقدس الأماكن للمسلمين، التي تتميز كل عام بأجوائها الرمضانية على الرغم من عوائق الاحتلال، أعلن مجلس الأوقاف الإسلاميةتمديد إغلاق المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، وتعليق حضور المصلين إلى الصلوات من جميع أبواب المسجد الأقصى، وهو ما يعني اختفاء أجواء الاعتكاف والصلاة لا سيما الفجر والتراويح، وصلوات الجمعة في رمضان التي يشارك فيها مئات آلاف المصلين من القدس والضفة الغربية والداخل الفلسطيني، وترسم لوحة فنية وإيمانية تتكرر كل عام في المسجد الأقصى وقبة الصخرة وساحاتهما، وتعطي رسالة واضحة على عميق إصرار المسلمين على إظهار الوجه الإسلامي والعربي للمدينة في وجه محاولات تهويدها من قبل الاحتلال الصهيوني.
وإلى جانب رمزية مكة والقدس الدينية، فإن منع إقامة صلاة الجماعة سوف يمتد ليشمل كل المساجد في العالم العربي والإسلامي بشكل عام، ولن تقام صلاة الجماعة في مساجد إسطنبول التاريخية الكبرى كمسجد الفاتح والسلطان أحمد والسليمانية إلى جانب أكثر من 90 ألف مسجد في تركيا، كما أن المسلمين سوف يحرمون من إقامة صلاة التراويح في جماعات، ولن يسمح بالاعتكاف وقيام ليلة القدر في المساجد وإقامة تجمعات السحور والفطور في داخل ساحات المساجد وهو ما يعرف في أغلب الدول بـ"موائد الرحمن".
العادات والتباعد الاجتماعي
تعتبر الزيارات الرمضانية وزيارات صلة الرحم بين الأقارب والأصدقاء والجيران من أبرز طقوس رمضان في العالم الإسلامي بشكل عام، وفي ظل شروط الحجر الصحي والتشديد على ضرورة التزام ضوابط التباعد الاجتماعي تقلصت زيارات ما قبل رمضان إلى حد كبير، ويتوقع أن تتقلص بشكل أكبر خلال شهر رمضان، وهو ما قد يمتد إلى أجواء عيد الفطر وزيارات العيد.
وبينما تنتشر ظاهرة زيارة كبار السن ومعايدتهم بقدوم رمضان والعيد، فإن شروط الحجر الصحي المشددة على كبار السن سوف تمنع إلى درجة كبيرة هذه الظاهرة، وسوف تكتفي العائلات بالمعايدات الهاتفية بدلاً من الزيارات وسلام اليد والتقبيل الذي بات من المحظورات في زمن كورونا، كما أن وقف حركة السفر بين الدول وحتى بين المحافظات والمدن في كثير من الدول سوف يمنع لقاء الكثير من العائلات التي اعتادت أن تجتمع في رمضان والعيد.
ولا تكتمل طقوس رمضان في العالم الإسلامي من دون بهجة الأطفال الذين يخرجون إلى الشوارع في تجمعات كبيرة ويطلقون الألعاب النارية ويحملون فوانيس رمضان للاحتفال بقدوم شهر رمضان وشراء الحاجيات والحلوى، وفي ظل مخاطر انتشار كورونا وخشية إصابة الأطفال به ومنع التجمعات وحظر التجوال في بعض البلدان، فإن هذه الطقوس سوف تختفي إلى حد كبير طوال شهر رمضان.
وفي دول الخليج العربي، تعتبر "قرقيعان" من أبرز طقوس رمضان بالنسبة إلى الأطفال، الذين يخرجون إلى الشوارع في كرنفال كبير ويجيبون بيوت الأقارب والجيران ويجمعون الحلوى ويرددون أهازيج رمضان، كلها ستختفي بلا شك إلى حين تخفيف شروط الحماية من انتشار كورونا. ولا يعرف حتى الآن ما إن كانت قوانين الحظر بالدول سوف تسمح بخروج المسحراتي لإيقاظ الناس لتناول السحور أو لا.
ولعل من أبرز المظاهر التي ستختفي في رمضان، موائد الرحمن أو الخيام الرمضانية التي تنتشر في كل الدول الإسلامية لإقامة تجمعات الإفطار الرمضاني للفقراء والمحتاجين التي تقوم بها الحكومات والبلديات وأهل الخير في الأحياء والمدن، حيث ستُمنع إقامتها بموجب قوانين منع التجمعات، ويتوقع أن تتحول الجهات القائمة على هذه الفاعليات إلى توزيع الطعام على المحتاجين في المنازل. في حين لن يحصل أي تغيير في قوانين إغلاق المطاعم وبالتالي انعدام الإفطارات الجماعية في المطاعم، إلى جانب السهرات الرمضانية وجلسات المقاهي التي كانت تميز شهر رمضان وتستمر حتى وقت السحور في كثير من الدول.
الآثار الاقتصادية
الضريبة الاقتصادية الباهظة التي تسبب فيها انتشار فيروس كورونا على الأفراد والشركات والحكومات سوف تلقي بظلالها بلا شك على أجواء رمضان هذا العام، إذ تراجعت الأوضاع الاقتصادية والقدرة الشرائية لمعظم شرائح المجتمع، فيما توقف دخل الكثير من العائلات الأخرى، في دول عربية تعاني أصلاً ظروفاً اقتصادية صعبة جداً في العام الأخير بشكل خاص.
وقبيل رمضان بأيام، كانت الأسواق كافة تتزين وتعرض فيها كميات هائلة من المنتجات الغذائية والتمور والعصائر والحلوى وسط أجواء مبهجة تستعد فيها العائلات لشراء حاجيات رمضان، ولكن في زمن كورونا لم تفتح الأسواق في كثير من الدول التي تطبق الحظر الكامل، بينما التزمت الأسواق المفتوحة معايير التباعد والاكتفاء ببيع الأساسيات وإن توفرت الكماليات فإن الظروف المادية الصعبة لشريحة واسعة تمنعهم من شراء كماليات رمضان المعتادة وتدفعهم هذا العام إلى الاكتفاء بالحد الأدنى من الأساسيات إلى حين تجاوز هذه الأزمة.
وعلى صعيد الحكومات والبلديات التي تضررت هي الأخرى اقتصادياً من هذه الأزمة، تراجعت قدرتها على تزيين الشوارع والميادين ونشر الأضواء والفوانيس ترحيباً بقدوم الشهر الكريم في ظل انشغالها بتسخير إمكانياتها كافة لمواجهة الآثار الكارثية لانتشار فيروس كورونا.
وفي ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، بدأت تتعزز دعوات التكافل الاجتماعي واستغلال شهر رمضان من أجل جمع الزكاة والتبرعات وأموال السفر والعمرة لمساعدة العائلات المستورة والمحتاجة وتعزيز قيم المساعدة والتكافل والتضامن إلى حين انقشاع الأزمة.