هل يُعتبر حل الدولتين هو الأنسب لإنهاء المسألة القبرصية؟
يلاحظ اندفاع تركيا مؤخرا لإيجاد حلول لقضيتين شائكتين: الأولى هي القضية القبرصية، والثانية هي قضية جزر بحر إيجة، وذلك لتحقيق هدف مركزي هو استعادة ما تعتبره "البحر التركي" الذي حُرمت منه لنحو قرن كامل وتحقيق وضع سياسي ثابت يحفظ حقوق القبارصة الأتراك.
علم الجمهورية التركية جبناً إلى جنب مع علم جمهورية شمال قبرص التركية  (Others)

وتعتمد تركيا في حرصها هذا على تمتُّعها حالياً بأفضل وضع جيوسياسي، يتمثل بأنها باتت حاجة استراتيجية إلى كل من أمريكا والدول الغربية للتعامل مع تداعيات غزو روسيا لأوكرانيا، وللمواجهة مع إيران. يُضاف إلى ذلك نجاحها في اعتماد سياسة خارجية تستهدف تصفير الخلافات مع دول المنطقة (كالسعودية والإمارات ومصر).

وتستند هذه الاندفاعية إلى ضرورة اعتماد مقاربة متكاملة لإيجاد حلّ مستدام للقضيتين بدل المقاربة السابقة القائمة على الفصل بينهما. والحقيقة أن الرئيس رجب طيب أردوغان حدّد الرؤية التركية للمشكلة والحلّ في خطاب ألقاه بمناسبة صلاة عيد الأضحى خلال زيارته لجمهورية شمال قبرص التركية في يوليو/تموز من العام الماضي، بقوله: "كل ما نتمناه هو أن يعمّ السلام والرخاء والاستقرار في المنطقة، وانطلاقاً من هذا المبدأ نقدّم مقترحات بنَّاءة لحلّ الأزمة، عن طريق عقد مؤتمر دولي حول شرق المتوسط يبحث الوضع السياسي لجزيرة قبرص واستغلال موارد النفط والغاز ومشكلة جزر بحر إيجة وترسيم الحدود البحرية مع قبرص واليونان". كما حدد في هذا الخطاب المفصلي سقف التنازلات التركية بالنسبة إلى المسألة القبرصية، بقوله إن "خيار الدولتين هو مفتاح حل أزمة الجزيرة، بما يحقّق إقرار مساواة القبارصة الأتراك في السيادة".

مفاوضات بين دولتين لا مجتمعين

وشهدت الفترة الأخيرة ترجمة واضحة للسياسة التركية بهذا الصدد تمثلت بأعمال تطوير جديدة في منطقة فاروشا التي تتحول بسرعة إلى وجهة دولية للسياحة مع وصول عدد السياح إلى نحو 500 ألف سائح، وكذلك تغيير الوضع القانوني لمطار تيمبو "إركان" وجعله مطاراً محلياً تركياً، بما يسمح باستقبال الرحلات الدولية.

يضاف إلى ذلك -وهو الأهمّ- تكثيف زيارات المسؤولين الأتراك لجمهورية شمال قبرص وإطلاق تصريحات شديدة اللهجة للمطالبة بتقسيم الجزيرة واعتماد حلّ الدولتين. كان أبرزها على الإطلاق تصريح لوزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس جمهورية شمال قبرص التركية أرسين تتار في العاصمة لفكوش، قال فيه: "إذا كان لا بد من استئناف المفاوضات بين شطرَي الجزيرة فيجب أن تكون (بين دولتين لا بين مجتمعين)، فالمفاوضات تتمّ بين أنداد، وإلا فلا معنى لها. فقد اختبرنا ذلك النوع من التفاوض لمدة 54 عاماً، ليس لدينا 50 سنة أخرى نضيعها، فقد كنا نتفاوض من أجل اتحاد فيدرالي منذ سنوات، وقد سقط نتيجة رفض الجانب القبرصي اليوناني، الذي رفض أيضاً خطة أمين عامّ الأمم المتحدة كوفي عنان، وكذلك كل الصيغ والمبادرات التي طُرحت". وهو ما أكده أيضاً الرئيس تتار بقوله إن "إنهاء الأزمة في الجزيرة لا يمكن دون إقامة دولتين مستقلتين تتمتعان بالسيادة الكاملة".

يشار هنا إلى العقود الأربعة الماضية التي شهدت جولات متعددة من المفاوضات دون تحقيق أي إنجاز يُذكَر. إلى أن أعلنت جمهورية شمال قبرص عقب فشل جولة التفاوض في كرانس مونتانا في سويسرا العام 2017، وقف المفاوضات بسبب ما أسمته "عدم توافر الإرادة السياسية لدى القيادة القبرصية اليونانية لإيجاد أي حلّ". وبادرت خلال مؤتمر قبرص غير الرسمي الذي عُقد في جنيف في العام 2021، إلى إعلان موقفها النهائي بأن الحلّ الوحيد هو إقامة دولتين كاملتَي السيادة.

قبرص تهادن واليونان تصعّد

سعت كل من اليونان وقبرص إلى استيعاب اندفاعة جمهورية شمال قبرص ومن ورائها تركيا. وقد اعتمدت اليونان خيار التصعيد إذ قام رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس بزيارة عاجلة إلى قبرص، ليؤكّد بعد اجتماعه مع رئيس قبرص اليونانية العزم على "الدفاع عن اليونان وقبرص من خلال القانون الدولي وتحالفاتنا القوية وعضويتنا في الأسرة الأوروبية وبتصميم هادئ ورباطة جأش". وكان التصعيد اليوناني قد بلغ ذروته بعد اتهام ميتسوتاكيس تركيا بزعزعة الاستقرار في جزيرة قبرص، أمام أعضاء الكونغرس الأمريكي مؤخراً، ومطالبته واشنطن بعدم بيع أنقرة مقاتلات F-16، وذلك في معرض ردّه على مطالبة تركيا بوقف تسليح جزر بحر إيجة، وهو ما استدعى ردّاً ناريّاً من الرئيس أردوغان الذي قال: "لم يعُد في كتابي أي شخص يُسمَّى ميتسوتاكيس".

أما قبرص اليونانية التي بدأت تستشعر جدية المخاطر المحدقة سواء على صعيد تعطُّل مسيرة استغلال موارد النفط والغاز أو التزايد السريع في حصة قبرص التركية من عدد السياح، فقد اعتمدت خيار التهدئة النسبية، إذ أعادت التذكير بمبادرة الرئيس نيكوس أناستاسيادس "تدابير بناء الثقة"، وهي المبادرة التي تعتبرها تركيا "مجرد محاولة لتضليل المجتمع الدولي من خلال إعادة تغليف وتقديم أفكار قديمة".

وبادر الرئيس القبرصي بمخاطبة الأمين العامّ للأمم المتحدة، ورؤساء الدول الضامنة لاتفاقية تقسيم الجزيرة وجميع القادة الأوروبيين، شارحاً ضرورة استئناف المفاوضات وكسر الجمود الحاصل والعودة إلى المسار القائم على أساس قرارات مجلس الأمن ذات الصلة"، ولكن المفارقة أن هذه الرسائل ركزت على ما اعتبرته أعمالاً غير قانونية في منطقة فاماغوستا وتطوير منطقة جديدة في فاروشا، والمطالبة بإخضاع مطار تيمبو "إركان" لولاية الأمم المتحدة. وهو ما اعتبره وزير الخارجية التركي مطالب في غير مكانها، لأن تطوير هذه المنطقة لا يشكّل انتهاكاً للقانون الدولي، قائلاً: "لا أعتقد أن وضع بعض الكراسي على شاطئ البحر يشكّل تهديداً للأمن الدولي".

بحر الغاز لا كراسي الشمس

لقد بات واضحاً أن جوهر المشكلة ليس التنافس على كراسي البحر والمنتجعات والكازينوهات، بل على موارد النفط والغاز. كما بات واضحاً أن الخيارات أصبحت محدودة، وهي إما تسوية تستند إلى معايير العدالة والمصالح المشتركة، وتقود إلى ترسيخ الاستقرار وتسهيل استغلال هذه الموارد بما يعزز النمو والازدهار، وإما التشبث بالمواقف والمرواحة في مفاوضات لا تنتهي، تقود إلى مزيد من التوترات السياسة وربما المواجهات العسكرية والدمار.

كما بات أكثر وضوحاً أن حاجة أوروبا إلى تنويع مصادر الطاقة وتقليص الاعتماد على الغاز الروسي تشكّل فرصة قد لا تتكرر أمام دول شرق المتوسط لاستغلال ثرواتها. والشرط الأساسي لذلك هو تسوية النزاعات الحدودية من خلال إيجاد حل دائم للقضية القبرصية ولجزر بحر إيجة ما يسمح باستعادة تركيا جزءاً من مياهها البحرية، وما يسمح للقبارصة الأتراك بالمشاركة في ثروات بلادهم.

وبغير ذلك فإن النتيجة الوحيدة ستكون تَعطُّل استغلال الموارد الطبيعية، وهو ما يتضح من تجربة قبرص اليونانية، فبعد مررو 15 عاماً على بدء عمليات الاستكشاف وأكثر من 10 سنوات على اكتشاف حقل أفروديت، فإن الإنتاج لم يبدأ فعلياً. في حين قطعت إسرائيل ومصر شوطاً كبيراً في الإنتاج والتصدير خلال ذات الفترة. ويرجع ذلك ببساطة إلى أن شركات النفط الدولية تتجنب الاستثمار في منطقة نزاعات مهما كان نوعها، بخاصة أن الكميات الموجودة في الحقول القبرصية المكتشفة ضئيلة نسبياً وذات تكلفة إنتاج عالية ولا تتوفر إمكانية تصديرها إلا عبر خط أنابيب إلى محطات التسييل المصرية، الذي تم الاتفاق على إنشائه.

وذلك يقود إلى الإضاءة على حقيقة معروفة ومسكوت عنها، هي أن عدم حلّ القضية القبرصية وجزر بحر إيجة، يعطّل أي إمكانية لتصدير غاز المتوسط عبر خطوط الأنابيب، لأن الخط الوحيد المجدي والقابل للتنفيذ هو الذي يربط حقول المتوسط بميناء شيحان التركي ليرتبط بالشبكة التركية والأوروبية، وحيث توجد محطات جاهزة للتسييل.

ولعلّ سقوط مشروع أنابيب "إيست ميد" بالضربة القاضية الأمريكية خير دليل على ذلك، وهو ما أشار إليه بوضوح وزير الخارجية التركي بقوله: "إن تركيا هي المنفذ الوحيد للغاز الإسرائيلي ولغاز شرق المتوسط للتصدير إلى أوروبا". ومن المفارقات الطريفة هنا، أن هذه الحقيقة ذكرها بوضوح أيضاً وزير الطاقة القبرصي بقوله إن "الجمود المستمرّ لم يضرّ بقبرص فحسب، بل أضرّ بالمجتمع الدولي". واعتبر أن الخلافات السياسية والقضايا التي عطّلَت خط "إيست ميد" قد تعطّل أيضاً خط الأنابيب من إسرائيل وحقول المتوسط إلى تركيا".

عسى أن تشكل الانتخابات التي ستجري في قبرص واليونان وتركيا في العام 2023، سبباً وحافزاً للوصول إلى تسويات لحلّ النزاعات، بدلاً من أن تكون سبباً وحافزاً لمزيد من التصعيد والمزايدات للفوز بالانتخابات.

أما العامل الحاسم في تقرير مسار الحلّ واتجاه التطورات في القضية القبرصية وأزمة شرق المتوسط عموماً، فهو الموقف الأمريكي. فهل يعمل الرئيس جو بايدن كما فعل سلفه جيرالد فورد بنصيحة الوزير هنري كسينجر في العام 1974، بأنه "لا يوجد أي سبب يدفع أمريكا إلى منع القبارصة الأتراك من امتلاك ثلث مساحة الجزيرة"؟ وليشكل الحلّ المعتمَد في قبرص سواء بالتقسيم أوبالفدرلة نموذجاً للحلّ الذي سيعتمد في دول أخرى.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي