هل وصل الشرق الأوسط إلى حقبة "ما بعد أمريكا"؟
إن من كانوا في السابق حلفاء تقليديين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يديرون ظهورهم اليوم لواشنطن ويتقربون من موسكو وبكين في تحوُّل ملحوظ في الولاءات.
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أثناء استقباله الرئيس الأمريكي جو بايدين (Others)

عندما ترى أن دولتين من الحلفاء الموالين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، هما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، تعاملتا ببرود مع واشنطن، فاعلم أن منطقة الشرق الأوسط "ما بعد الهيمنة الأمريكية" التي تُروَّج كثيراً، أصبحت حقيقة.

في الواقع، كان هذا التعاطي البارد أكثر بكثير من مجرد كونه ازدراءً عابراً، بل كان بالأحرى عملاً من أعمال التحدي الصريح عندما رفض ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد الرد على مكالمة هاتفية من الرئيس بايدن كجزء من جهود الأخير للاستبدال بالنفط الروسي في الأسواق، من خلال إقناع المنتجين غير الروس بزيادة إنتاجهم في سياق الحرب في أوكرانيا.

على الرغم من أن كلا الأميرين الخليجيين كان له مبرراته الخاصة وحتى أسباب استياء "مشروعة" من إدارة بايدن، فإن المعاملة هذه كانت بعدُ مذهلة، نظراً إلى تاريخ وطبيعة العلاقات التاريخية بين واشنطن وحلفائها الخليجيين.

ولأن كلّاً من الرياض وأبو ظبي كانت تعتمد بشكل كامل تقريباً على الدعم الأمريكي لبقائها على مدار عقود مضت، فليس من السهل العثور على سوابق في تاريخ علاقاتهما الثنائية على شاكلة ما حدث مؤخرا من برود باستثناء بعض الحوادث العابرة.

والأهمّ من ذلك أن تجاهل الرياض وأبو ظبي لبايدن لم يقتصر على احتجاج "لمرة واحدة". إن فعل التحدي الذي يقومون به يستند حقيقة إلى سياسة محددة. فبعد وقت قصير من زيارة بايدن رفيعة المستوى للرياض، التي كانت تدور أساساً حول "طمأنة" الحلفاء التقليديين لواشنطن بأن "الولايات المتحدة لم ولن تتخلى" عن المنطقة، فضلاً عن حثّهم على زيادة إنتاج النفط، أعلن أوبك+ تخفيض الإنتاج، في خطوة تعاكس تماماً ما طلبه الرئيس بايدن.

على الرغم من أن المرء يمكن أن يجادل بأن هذا القرار لأوبك+ كان محض قرار داخلي من المنظمة ولا دخل فيه للسياسة أو للمصالح القومية للرياض وأبو ظبي، فإن الرياض، كما هو معروف، تهيمن على منظمة أوبك لعقود، خصوصاً في ما يتعلق بالقرارات المتعلقة بحجم إنتاج النفط. علاوة على ذلك، يُعَدّ تحالف أوبك+ تشكيلاً غير رسمي، وهو في الأساس منظمة أوبك موسعة مع إضافة دول أخرى منتجة للنفط بقيادة روسيا.

تماماً كما هيمنت الرياض على منظمة أوبك منذ عقود، يمكن القول إن كلّاً من السعودية وروسيا هيمنت على أوبك+ بطريقة مشابهة جدّاً، منذ تشكيله. لأن قرار أوبك+ خفض إنتاج النفط لن يكون ممكناً بلا مباركة من الرياض وموسكو وأبو ظبي كأعضاء بارزين، فإن فعل التحدي الذي اتخذته الرياض وأبو ظبي ضدّ بايدن يكتسب معنى مختلفاً إذاً.

في الوقت الذي يبحث فيه بايدن بيأس عن أي بديل للنفط والغاز الروسي، إلى حد محاولة استمالة كل من إيران وفنزويلا، فإن الحليفَين "المخلصَين'' للولايات المتحدة منذ وقت طويل، الرياض وأبو ظبي، ليسا فقط لا يلبيان طلب واشنطن، بل يعملان معاً أيضاً وفي انسجام مع موسكو، وهو أمر أثار استياء بايدن.

تقارب الرياض وأبو ظبي من موسكو على الرغم من "نصيحة" بايدن القوية بالضد من ذلك لا يأتي ضمن مبدأ التقارب العرضي أو القطاعي المتمحور حول الطاقة، ولكن يذهب أبعد من ذلك حيث يمسّ تغييراً أكبر في طبيعة علاقاتهما مع واشنطن. في الواقع لم يؤثّر هذا التغيير في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة فحسب، بل أثّر أيضاً في جميع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين الآخرين في الشرق الأوسط مثل إسرائيل ومصر وحتى تركيا حليفتها في الناتو.

التغيير لم يحدث بين عشيَّة وضحاها، بل كان في طور الإعداد منذ اختيار واشنطن سياستها الاستراتيجية لـ"التوجه نحو آسيا"، الذي أدَّى تدريجياً ولكن باطّراد إلى تدهور أهمية وأولوية منطقة الشرق الأوسط لواشنطن.

التدهور التدريجي لمنطقة الشرق الأوسط كمنطقة ذات أولوية لواشنطن أدَّى حتماً إلى إهمالها المصالح الوطنية والحيوية لحلفائها التقليديين في المنطقة. وقد تفاقم هذا الإهمال أيضاً بسبب خيارات سياسية معينة لواشنطن على مدى العقد الماضي، ترقى إلى "الأعمال العدائية" في نظر بعض حلفائها التقليديين.

وبعد فترة مؤلمة من النضال من أجل التكيف مع التغيير في نهج واشنطن لعلاقاتها مع حلفائها، يبدو أن الجهات الفاعلة الإقليمية أدركت أخيراً طبيعة علاقاتها هذه مع واشنطن، فهي علاقة لم تعُد مستقرة واستراتيجية، بل هي غير مستقرة وتقوم على مبدأ الصفقات.

كانت النتيجة الطبيعية لهذا الاعتراف من الجهات الفاعلة الإقليمية هي التنويع وتحقيق التوازن في علاقاتهم مع واشنطن من خلال تنمية علاقات جديدة مع كل من موسكو وبكين على مدى العقد الماضي.

توصل جميع الفاعلين الإقليميين إلى طريقة لضمان مصالحهم الوطنية من خلال صفقات مع موسكو وبكين بدرجات متفاوتة في ما يشبه غياب واشنطن، وثبت أن "ممارسة الأعمال التجارية" مع روسيا أو الصين ليست فقط أكثر سهولة، بل أكثر من ذلك بكثير، إذ يمكن التنبؤ به ويُعَدّ أكثر استقراراً من التعامل مع واشنطن.

لم تعُد واشنطن شريكاً أو حليفاً موثوقاً به لحلفائها التقليديين في الشرق الأوسط بسبب ممارسة استمرَّت عقداً اتصفت بالإبعاد والإهمال، بل وذهبت أحياناً إلى درجة تقويض مصالح حلفائها الإقليميين الوطنية.

ليس من قبيل المصادفة أن جميع الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر وتركيا وحتى إسرائيل) تَبنَّوا موقفاً مختلفاً عن واشنطن تجاه روسيا، وقاوموا سياسة الاستقطاب الأمريكية في الحرب الأوكرانية بسبب علاقاتهم الجوهرية مع موسكو.

ليس أي من هؤلاء الفاعلين الإقليميين في وارد الإضرار بعلاقاتهم مع موسكو أو قطعها من أجل واشنطن التي أصبحت تُعتبر لاعباً غير متوقَّع ولا يمكن التنبُّؤ بأفعاله. هذا هو السبب في أننا نشهد كيف يقف بعض الجهات الإقليمية في وجه واشنطن بطريقة غير رادعة كانت غير مفهومة سابقاً.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي