فقائد الطائرة الحربية التي تقصف الأحياء السكنية، بإمكانه أن يكون معزولاً شعورياً عن ضحاياه، حين ينظر إلى مهمّته القتالية من زاوية تقنية بحتة متعلقة بفنون الطيران والمناورة واللعب على لوحة مفاتيح لإطلاق الصواريخ عن بُعد. فماذا لو كانت هذه الطائرات القتالية لا يعتمرها طيّار أصلاً؟ ولا يوجهها فنّي في قاعدة عسكرية، بل تمت برمجتها مسبقاً لتعرف أهدافها وتقصفها عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي؟!
لعل هذا السيناريو الذي يشبه كثيراً ما نطالعه من روبوتات قاتلة في الأفلام، هو أكثر ما يؤرق المنتقدين للتوسع في استخدام المسيّرات القتالية، لا سيما لأغراض تتجاوز أهداف الاستطلاع وجمع المعلومات نحو تنفيذ مهام قتالية مباشرة، والتحول الوشيك نحو الاستقلالية عن القيادة البشرية لهذه المسيّرات، لتتحول نحو الاعتماد الذاتي في عمليات التحليق ورصد الأهداف واكتشافها وتدميرها. مما يفرض أسئلة حول أخلاقية هذا النوع من القتال، وما يفرزه من نتائج على الأرض، تجعل من الأهمية القصوى تطوير تشريعات وبروتوكولات عالمية تنظمه، وتضع آليات رقابة ومحاسبة دولية ضابطة.
لا تقتصر دواعي القلق إزاء تشغيل المسيّرات عند حدود التوسّع في المهام القتالية، نظراً لقلة تكلفتها المالية والبشرية، إنما قد تسجّل تقنيات الذكاء الاصطناعي أخطاء جسيمة تقود إلى أن تضل المسيّرات هدفها أو تقصف أهدافاً مدنية، مثل هذه الأخطاء اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية بارتكابها مراراً في سوريا وأفغانستان، أسوأُها خطأ تقني قاد إلى قصف مجموعة من المزارعين الأفغان عام 2019 ما أسفر عن مقتل 30 منهم على الأقل.
وقد صدر تقرير للأمم المتحدة مطلع 2021 يحذر بأنه جرى الاشتباه، لأول مرة، بتنفيذ مُسيّرات قتالية لضربات صاروخية في ليبيا بشكل مستقل بنسبة 100% عن الأوامر البشرية، أي بالاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي، الذي يعمل وفق بيانات مبرمجة مسبقاً على تمييز بصمات الوجه لتشخيص الأهداف المطلوبة (للتبسيط يمكن التأمل كيف يعمل الهاتف الذكي على تصنيف وجوه الأشخاص في معرض الصور) وقال التقرير إن هذه المُسيّرات نفذت عمليات مطاردات وقصف لمقاتلين على الأرض في ليبيا، محذراً من أن الثقة بمثل هذه التقنية التي تشبه ما نشاهده في الأفلام من روبوتات قاتلة تطارد أشخاصاً بعينهم وتفجّرهم، ما زالت هشة من حيث دقتها وابتعادها عن الأخطاء.
ومع تعدد الأطراف والدول التي انخرطت في الحرب الليبية وحوّلت سماءها إلى معرض للمُسيّرات، لم يستطع تقرير الأمم المتحدة تحميل أي طرف المسؤولية عن هذه الواقعة، وهذا وجه آخر من وجوه الخطر الكامن في استخدام المسيّرات، حيث القدرة على التنصل من المسؤولية السياسية والأخلاقية إزاء أي هجمات.
تصب الجهات المصنّعة للمُسيّرات جهودها لتطوير قدرات التسلل والتخفي وتضليل الرادارات والمضادات الجوية لمقاتلاتها، وكلها ميّزات قد تشجع الدول والكيانات على خوض الحروب مع التخفف من المسؤوليات المرتبطة بها.
ومع انخفاض التكلفة البشرية وكذلك المادية مقارنة بغيرها من الأسلحة، فإن الحروب عن بُعد باستخدام المُسيرات تصبح أكثر إغراءً، مما يشجع على نشوبها وعلى استمرار أمد المواجهات فيها، ويقلل من الميل للجلوس لطاولة المفاوضات والاتفاق على وقف إطلاق النار.
ومقابل هذه المخاطر، يجب عدم إغفال جملة أخرى من الميزات التي توفرها المُسيّرات القتالية، فمن ناحية أخلاقية أيضاً، هي الأقدر على تقليل التكلفة البشرية ليس فقط على الطرف المشغّل إنما على جميع الأطراف في المعركة، فنظراً لكلفة الطيران المنخفضة مادياً وبشرياً، فإن المُسيّرات هي الأقدر على التحليق فوق مواقع الخطر لفترات أطول تمكّنها من رصد أهدافها بتأنِّ والتأكد من تحييد المدنيين وتقليل الخسائر البشرية والمادية قبل تنفيذ أي هجوم.
كما تعد تكلفة تصنيع المسيّرات هي الأقل من ضمن منظومة السلاح الجوي، وكذلك تكلفة صيانتها وتشغيلها، كما سجلت نجاحات ملحوظة في محاصرة الجماعات الإرهابية والانفصالية ومجموعات الجريمة المنظمة التي تتخذ من الجغرافيا الوعرة منطلقاً لحرب العصابات وعمليات التهريب.
وأخيراً فإن المسيّرات القتالية كغيرها من أنواع الأسلحة، تحتاج إلى الاحتكام لجملة من التشريعات والقوانين المحلية والدولية تضبط استخداماتها، وتعزز من وسائل الرقابة والمحاسبة، وفي حال الالتزام بمثل هذه التشريعات، فإن أهم إيجابياتها تتمثل بكسر احتكار الغرب لتصنيع تكنولوجيا السلاح، وفرض القيود والاشتراطات السياسية المشددة في وجه تصديرها لدول العالم.
ومع وجود قوى صاعدة كتركيا حفرت مكانتها في مقاعد المصنّعين والمصدّرين لهذه التقنية، أصبح كسر هذا الاحتكار ممكناً جداً، مما يفسح المجال لإعادة ترتيب التوازنات الأمنية في منطقة مثل الشرق الأوسط، كانت محسومة على الدوام لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما في المنطقة، نظراً إلى الفجوة الهائلة في القدرات العسكرية والأمنية واستحالة تضييقها دون العبور من بوابة امتلاك تكنولوجيا السلاح.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.