هل تعيد الصين النظر في مقاربة "الصعود السلمي"؟
يبدو أن ثمة فرص لقيام الصين بإعادة النظر في مقاربتها للصعود السلمي التي قامت عليها سياستها الخارجية الدولية منذ 2003، ذلك أنه قد حدث العديد من التطورات والتغيرات المهمة طوال الـ18 عاماً الماضية، والتي قد تؤثّر في الأسس التي بُنيت عليها هذه النظرية.
لوحات زخرفية تحمل صور الرئيس الصيني شي جين بينغ معروضة في متجر في سوق بانجيايوان للتحف في بكين ، 9 نوفمبر 2021 (تصوير نويل سيليس / وكالة الصحافة الفرنسية) (AFP)

قبل أيام، سعدتُ بالمشاركة في مؤتمر دولي أقامه في إسطنبول منتدى آسيا والشرق الأوسط بالتعاون مع إحدى الجامعات الصينية، حول الصين والقضية الفلسطينية، وأحب أن أشارك القارئ الكريم بعض الأفكار التي طرحتها في ورقتي.

منذ أن تبنّت الصين التحديثات الأربعة سنة 1978، أدارت ظهرها للثورة الثقافية، واتجهت بالتدريج نحو سياسة براغماتية تُغلِّب المصلحة على الآيديولوجيا، وتبنّت سياسات الانفتاح والتنمية الاقتصادية، مع الحفاظ على هيمنة الحزب الشيوعي على الحياة السياسية والعامة.

وفي سنة 2003 صاغ المفكّر الاستراتيجي الصيني زينغ بيغيان Zheng Begian نظرية "الصعود السلمي" التي تتحدث عن انتقال الصين تدريجياً إلى لاعب رئيسي في العلاقات الدولية، ولكن دون تهديد أمن واستقرار النظام الدولي، واستخدام أدوات القوة الناعمة كأساس لهذا الصعود. وهي نظرية متناغمة مع نظرية التنمية السلمية للرئيس السابق هو جنتاو Hu Jintao.

هذه النظرية تميل إلى عدم الانغماس في النزاعات الإقليمية، وهو ما يفسّر غيابها عن "الرباعية الدولية" المتعلقة بالشأن الفلسطيني. وتحرص على الظهور بأنها على مسافة واحدة من الأطراف المتنازعة، وليس لديها مشروع سياسي عالمي، وقائمة على سياسة "قل كلمتك وامشِ"، ولا تشدُّد لديها إلا في قضية تايوان التي تعدّها قضية وطنية.

وقد أرادت الصين من خلال هذه الرؤية كسب الوقت في تطوير اقتصادها وقواتها العسكرية وقدراتها التكنولوجية العالية، أي تقوية الذات في شتى المجالات، إلى أن تصبح في وضع يمكّنها من فرض نفسها دولياً. فهل استنفدت نظرية "الصعود السلمي" أغراضها، وحان للصين تعريف تموضعها الجديد، والتطلع إلى أهداف جديدة؟!

نركز في هذا المقال على أربعة مؤشرات رئيسية، مع ملاحظة أن لكل منها مؤشرات فرعية كثيرة، سنُضطرّ إلى اختيار بعضها بسبب حجم المقال المحدود.

المؤشر الأول هو المؤشر الاقتصادي الذي حقّق قفزات هائلة قياساً بكل دول العالم، إذ نلاحظ أن الناتج المحلي الإجمالي GDP للصين قفز من 1.66 تريليون دولار أمريكي في سنة 2003 إلى 14.72 تريليون دولار سنة 2020 أي بزيادة نسبتها 887%، أي ضاعف حجمه نحو تسعة أضعاف. وبعد أن كان في المرتبة السادسة عالمياً صعد إلى المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، أما الدول التي كانت تسبقه (بريطانيا وألمانيا وفرنسا واليابان) فأصبح الناتج الإجمالي المحلي الصيني أكبر من الناتج الكلي لهذه البلدان مجتمعة (14.18 تريليون دولار سنة 2020) بنحو 540 مليار دولار. ومن المتوقع أن يلتحق الناتج الإجمالي الصيني بمثيله الأمريكي قبيل 2030.

ومنذ 2013 أصبحت الصين الأولى في التجارة العالمية، بحجم صادرات وواردات وصل إلى نحو خمسة تريليونات دولار سنة 2020، ويتوفر للصين احتياطات نقدية بحدود 3.2 تريليون دولار. والصين هي المصدّر الأول لنحو 35 بلداً، والمستورد الأول من نحو 25 بلداً، وهي تستثمر في سندات الخزينة الأمريكية نحو تريليون و72 ملياراً حسب أواخر سنة 2020.

وللصين صناعات في كل المجالات تقريباً، وتمكنت من تحسين جودتها مع الحفاظ على أسعار منافسة جداً. كما دخلت الصين في مشاريع عملاقة كمشروع الحزام والطريق الذي يضم نحو 70 بلداً تشمل 65% من سكان العالم، ويشتمل على طرق تجارة عالمية وموانٍ وسكك حديد وغيرها.

المؤشر الثاني هو الصعود العسكري الكبير، إذ يلاحَظ أن الميزانية العسكرية الصينية كانت 33.14 مليار دولار سنوياً في سنة 2003، وكانت الخامسة عالمياً، من حيث الإنفاق العسكري، وكانت تعادل نحو 7.6% من الميزانية العسكرية الأمريكية فقط، غير أنها قفزت إلى 252.3 مليار دولار سنة 2020 بزيادة 760%، وهي ميزانية تزيد على المجموع الكلي لميزانيات روسيا 61.9 مليار، وبريطانيا 59.2 مليار، وفرنسا 52.8 مليار، والهند 72.9 مليار، (مجموعها 246.5 مليار دولار) للسنة نفسها. وهي وإن كانت لا تزال بعيدة عن الولايات المتحدة (778 مليار دولار)، فإنها تعبّر عن تموضع عسكري نوعي عالمي جديد.

وإلى جانب أن الصين تملك نحو 350 قنبلة نووية، فقد تمكنت في السنوات الماضية من تطوير تكنولوجيا السلاح، وأصبحت أقل حاجة إلى التكنولوجيا الغربية من ذي قبل. وكان من أبرز مؤشرات تقدمها الكشف عن التقدم الهائل في الصواريخ التي تتجاوز سرعة الصوت، والتي كان من أبرزها صاروخ دونغ فينغ 41 (ريح الشرق) Dongfeng 41، وهو صاروخ عابر للقارات، يستطيع حمل عشرة رؤوس نووية، ويمكنه التحليق بسرعة تصل إلى 25 ضعف سرعة الصوت (510 كيلومترات في الدقيقة)، ويزيد مداه على 12 ألف كيلومتر، وهو ما يشكّل تحدياً استراتيجياً خطيراً للأمريكان في هذا المضمار.

المؤشر الثالث التقدم العلمي والتطور التكنولوجي الواسع، وهو تطور يلاحظه العالم في الأداء الصيني في جوانب كثيرة. ونشير مثلاً إلى أن عدد براءات الاختراع المسجلة في الصين (للمقيمين Residents) كان في سنة 2007 نحو 32 ألف براءة اختراع مقابل نحو 80 ألفاً في الولايات المتحدة، أما في سنة 2019، فقفزت براءات الاختراع في الصين بشكل هائل إلى 361 ألفاً مقابل 167 ألفاً في الولايات المتحدة. ولتوضيح الفروق بشكل أكبر فإن ما سجّلته روسيا في السنة نفسها كان 20 ألفاً، وألمانيا وفرنسا نحو 12 ألفاً لكل منهما.

وفي وسائل الاتصالات خصوصاً الجيل الخامس 5G، تقدّم صيني استثنائي، هو ما دفع الولايات المتحدة إلى وضع عقوبات قاسية ضدّ شركة هواوي مثلاً، كما أطلقت الصين مؤخراً قمراً صناعياً يعمل بتقنية الجيل السادس 6G (مثلاً تستطيع تحميل 142 فيلماً في ثانية واحدة).

المؤشر الرابع يتعلق بشبكة العلاقات السياسية والمصالح الاقتصادية والاستثمارية الواسعة التي تمكنت الصين من نسجها طوال السنوات الماضية، بحيث صارت صاحبة الحضور الأقوى في آسيا وإفريقيا، وفي منظومة المصالح المتبادلة مع الكثير من البلدان. وما يعزّز هذا المؤشر عدم وجود ماضٍ عدائي استعماري للصين، مما يسهّل قبولها لدى دول وشعوب العالم، في مقابل الصورة الاستعمارية الإمبريالية لأمريكا والدول الغربية.

ولا تعني المؤشرات السابقة أن الصين قد حققت كل أهدافها من "الصعود السلمي"، ولا أنها أصبحت في وضع عالمي متفوق على الولايات المتحدة، فما زال أمامها شوط طويل. غير أنه من الواضح أن في مكانة الصين العالمية في سنة 2021 تغيراً استراتيجياً ضخماً، عنه في سنة 2003، وأنَّ الكثير من أهداف نظرية "الصعود السلمي" قد تمّ تحقيقه، وأن عدداً من المعطيات التي بُنيت عليها هذه النظرية لم تعد قائمة. ثم إن الصعود السلمي للصين لم ينجح في تخفيف الشعور الأمريكي بمخاطر صعود هذا المارد، مما جعل أمريكا تركز في المنافسة والمخاطر المحتملة على طرفي المحيط الهادئ، وأصبح الصعود الصيني يُواجَه بالمعوقات والعراقيل، التي تحشره في زاوية الدفاع عن النفس، وتفعيل دوره السياسي العالمي. وإذا ما وضعنا في اعتبارنا عدداً من مظاهر التراجع الأمريكي العالمي، وسير العالم باتجاه منظومة متعددة القطبية، فإن الصين التي فرضت نفسها فرضاً، ستجد نفسها إن عاجلاً أو آجلاً تراجع نظريتها في "الصعود السلمي" لتقدم رؤية مُطوَّرة تتناسب مع تموضعها العالمي الجديد، ولتواجه التحديات الجديدة الناتجة عن هذا التموضع.

وفي المقابل، فما زال هناك عدد من الجوانب الرخوة في المنظومة الصينية. فالنظام الصيني ما زال نظاماً سياسياً شيوعياً تحت حكم الحزب الواحد، يحمل مكونات هجينة لنظام براجماتي ومنظومة اقتصادية متداخلة مع المضامين الرأسمالية. وهو يعاني من أزمات حقيقية في تفشي الفساد وضعف الشفافية؛ كما أنه يخشى من الأثمان الكبيرة المحتملة للانفتاح والحريات السياسية. ويعاني النظام من المشاكل الاجتماعية التي نتجت عن تحديد النسل، والتراجع السلوكي والقيمي للجيل الصيني الشاب، وانعكاسات ظاهرة العولمة والظواهر الاستهلاكية على المجتمع الصيني. وهو ما قد يجعل التَّحول إلى رؤية جديدة بتموضع عالمي جديد عملية محفوفة بالصعاب، مما قد يؤخر إمكانية تنزيلها على الأرض.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي