تغيرت الأوضاع، وما عاد الزمن كما الفائت، يستوجب الاستنجاد بالطبول والصنوج والسيوف لإعلان الحروب، فقط تلزم الراغب في إعلان الحرب جرعة كهرباء واتصال بالنت وحركات على الماوس، ليتم تفريخ عشرات المقاتلين الافتراضيين، الذين لا ينتهون من التغريد والنشر والوسم و "الهاشتاغ" دفاعا أو هجوما، وفق ما تقتضيه المصالح والأهواء والنزاعات المدبرة بليل أو نهار.
لا حاجة اليوم إلى عنترة بن شداد لهزم الخصوم واستقدام النوق العصافير، ولا حاحة إلى البطل الملحمي "أخيل" ولا إلى حصان طروادة لتحقيق نصر كاسح، فقط يلزم المزيد من الذباب الإلكتروني لتكبيد "العدو" خسارات فادحة، فقد تغيرت قوانين الحرب، وانتقلت من الأرضي والرمزي والملحمي إلى ضفاف الإنترنيت حيث المجهولية والسرعة والمباغثة وغير قليل من خسة ودناءة.
فإلى حد قريب لم تكن توصيفات من قبيل: "الذباب الإلكتروني" و "الكتائب الإلكترونية" و "مرتزقة التغريد" و "اللجان الإلكترونية" و "الخلايا السوداء" و "البوتس" و "الجيوش الإلكترونية" و "المليشيات الإلكترونية"، لم تكن حاضرة في المخيال والمجال التداوليين، ولكنها باتت اليوم تؤشر على اندلاع حروب لا تضع الأوزار، وتدل أيضا على أسلوب جديد من الدعاية السوداءيتوسل بالتقنية ويستهدف رصيد الثقة لدى القراء والزائرين.
يؤكد الباحثون في سوسيولوجيا الإعلام بأن الذباب الإلكتروني هو مصطلح حديث، يعود الفضل في اكتشافه إلى الأزمة القطرية/الخليجية، التي كان من تداعياتها لجوء أطرافها إلى استحداث مجموعة من الحسابات المبرمجة آليا، وذلك على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف دحض الأطروحات المضادة وتحسين الصورة العامة، أملا في "تعليب" الرأي العام وتوجيهه نحو فكرة ما، لكسب التأييد والموالاة والتقليل من نفس المعارضة والرفض.
فيما يعتبر باحثون آخرون بأن هذه الكتائب الإلكترونية قديمة قدم الإنترنيت، بل إنها امتداد محتمل لما دشنه قبلا غوبلز وزير الدعاية لدى هتلر، فالمتغير هو الوعاء والشكل، فيما الجوهر واحد، يتحدد في "قولبة" الرأي العام وتغيير اهتماماته ومواقفه، بالشكل الذي يتسق مع الخلفيات الموجهة للقائمين على هذه الحروب الإلكترونية.
تعتمد هذه الحسابات الوهمية والمبرمجة أسلوب "المَطْرَقَةِ" الإعلامية عبر النشر المتكرر للتغريدات والهاشتاغات، وفي هذا الصدد يقول المختصون في برمجيات النت بأن هذه الحسابات تتم إدارتها والتحكم فيها من قبل "روبوت الويب" الذي يبرمج مجموعة من العمليات العالية الدقة التي تفضي إلى وضع "لايكات" و"تقاسمات" و"إعادة تغريد "لحسابات ومنشورات بعينها، لتتصدر قوائم "التراند" العالمية والمحلية.
معلوم أن الذباب لا ينتج عسلا، وأنه في الغالب يحوم حول القذارة والبؤس، كما أنه مزعج للغاية بطنينه وطيرانه الأخرق، وعزاؤنا الوحيد هو أن عمره الافتراضي لا يتجاوز ثلاثة أسابيع.
لكنه في الحالة الإلكترونية يصير أكثر إزعاجا وإيلاما، باشتغاله على الأزمة، وامتهانه للكذب والتضليل، واستعماله لأكثر الأساليب خسة وخبثا، تطبيلا أو مبارزة. ولهذا نلاحظ في هذه الحسابات الآلية مخزونا عاليا من التطرف في الدفاع والتهجم، دونما خجل في اعتماد الإشاعة والتزييف والتضخيم.
فالأمر يتعلق بتطور خالص لتقنيات الدعاية التي تحدث عنها هارولد لازويل سنة 1927، لما أهدانا كتابا موسوما بـ"تقنيات الدعاية خلال الحرب العالمية"، والذي كشف من خلاله الأهمية القصوى للآلة الإعلامية في صناعة الحرب أو السلام وكذا في تحقيق الانتصار أو تكبد الهزيمة، إذ يقول بأن "الدعاية تتناغم مع الديمقراطية، فهي تمثل الوسيلة الوحيدة في خلق الانتماء والولاء لدى الجماهير، إضافة إلى كونها وسيلة أكثر اقتصادية من العنف"، فهي غير مكلفة ولا تخلف خسائر في الأرواح والعتاد كما الحرب التقليدية.
تتحدر كلمة دعاية propagande من الأصل اللاتيني propagate ومعناها يدعو، ولقد استخدمت أول مرة سنة 1622لما أنشأ البابا جريجوري الخامس عشر ما سماه هيئة الدعاية، وكانت وظيفتها العمل على نشر الدعوة الدينية.
إلا أن الحضور القوي للدعاية سَيُسَجَّلُ بالضبط مع الحربين العالميتين الأولى والثانية ،فهذا هتلر يقول: "الدعاية تحطم نفسية العدو قبل أن تبدأ الجيوش في التحرك،إن أسلحتنا هي الاضطراب الذهني وتناقض المشاعر والحيرة والتردد والرعب الذي ندخله في قلب الأعداء، فعندما يتخاذلون في الداخل ويقفون على حافة الثورة، وتهددهم الفوضى الاجتماعية، تحين الساعة للفتك بهم بضربة واحدة".
فالدعاية التي ينفذها الذباب الإلكتروني ليست لها سياسة واضحة وإنما هدف مخصوص تهفو إلى تحقيقه بمختلف الطرق، بما فيها تلك التي تبدو غير سوية وغير أخلاقية.
فهي بذلك تنطوي على محاولات للتأثير على الأفراد والجماعات والسيطرة عليهم. ففي الأنساق التي تُدمن تقييد الحريات وتبخيس التقاطب والتعدد السياسي، فإن الرأي العام يصير منتجا للخطاب الأملس، ومرددا فقط لما يتساوق مع الإشارات القادمة من عند صناع القرار ومالكي موازين القوى.
فالنظام السياسي، أي نظام، يصنع رأيه العام ويحدد حاله ومآله تبعا لخصائصه وبنياته العميقة، وبالطبع فالذباب الإلكتروني، اليوم، هو المتحكم في تحديد احتمالات هذا الرأي العام.
إن فكرة الرأي العام الفاعل والصانع للتغيير لا تصير ممكنة إلا في ظل
الأنساق السياسية التي تعمد إلى التصريف السوي لصراعاتها وتنافساتها، أي تلك الأنساق
التي لا تنتج ثقافة الإجماع والتواطؤ، بل تؤسس وتُجَذِّرُ ثقافة الاختلاف.
ففي هذه السجلات الثقافية والسياسية يصير الحديث ممكنا عن الرأي العام الظاهر لا المستتر، وبالمقابل ففي أنساق "الاختناق السياسي" التي تتعالى فيها الموانع والكوابح السياسية، فإن مقولة الرأي العام تصير بلا جدواى، الأمر الذي يجعل من تحركات شعوبها، كما في الحالة العربية، مجرد هزاتومواقف واتجاهات عرضية تخبو وتلتهب ارتباطا بأحداث بعينها، وفي ظل استنفار عالي التوتر لممكنات الرقابة والتحجيم، تحركها وتتحكم فيها كتائب إلكترونية تختفي في الروبوتات وخلف الشاشات لتسويق أطروحة سدنة الحكم لا غير.
يلوح عالم النت كفضاء للحرية الناجزة والمكتملة، فقد مكن كل واحد منا من استعراض ذاته والتعبير عن رأيه، توكيدا لديموقراطية الانتفاع والاقتسام، إلا أن هذا الجزء المملوء من الكأس لا ينبغي أن ينسينا ديكتاتورية التوجيه والتعليب التي تمارسها الكتائب الإلكترونية في حق مستعملي النت، ولا ينبغي أن يلهينا عن آليات القمع الإلكتروني التي تتواصل حجبا وحظرا ومنعا من الوصول إلى المواقع المغردة خارج السرب.
مثلما يلجأ الأفراد إلى حظر معارضيهم و "أعدائهم" من ولوج صفحاتهم الفايسبوكية، لا تتردد الدول في حجب المواقع المعارضة ومنع الوصول إليها، حتى لا يكون بمقدور المواطن سوى التردد على "الرواية الرسمية" والدوران كبغل طاحونة مغمض العينين.وهو ما يعني تجذرا تاما لديكتاتورية التوجيه والتعليب.
فمع أدوات الحجب والذباب والتضليل، يصير الإبحار في النت وهما وتغريبا واغترابا، لا يستطيع المرء معه التحرر من الرقابة السياسية، ومن الخضوع المباشر لأجندة الفيالق الإلكترونية.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.