"اتفاق القمح" الذي وقع في إسطنبول كان في الحقيقة اتفاقين منفصلين لكن متلازمين، الأول لتصدير الحبوب الأوكرانية المتكدسة منذ شهور من ثلاثة مواني عبر ممر مائي، وقعته أوكرانيا مع تركيا والأمم المتحدة بشكل منفرد. ويتضمن الاتفاق إنشاء مركز رباعي مشترك (تركيا والأمم المتحدة وروسيا وأوكرانيا) في مدينة إسطنبول للقيادة والتنسيق. بينما يتضمن الاتفاق الثاني الذي وقعته روسيا بشكل منفرد كذلك مع تركيا والأمم المتحدة إعفاء الأسمدة والمنتجات الزراعية الروسية من العقوبات الأمريكية والغربية وبالتالي تسهيل تصديرها وبيعها.
وصلت المفاوضات الشاقة التي استمرت زهاء ثلاثة أشهر إلى مرحلة التوقيع على الاتفاق بفضل جهود الوساطة التركية إضافة إلى الرعاية الأممية. ذلك لأن مواقف تركيا منذ بداية الأزمة بين موسكو وكييف ثم الحرب، بما في ذلك الحياد الإيجابي وعدم الاصطفاف الكامل وعدم المشاركة في العقوبات على روسيا وتجنب الدعم العسكري المباشر لأوكرانيا أسوة بالغرب والإبقاء على العلاقات الدبلوماسية مع طرفَي الحرب والوساطة السياسية التي بادرت لها، أهَّلتها للعب هذا الدور.
كما أجادت أنقرة استخدام أوراق القوة والتميز التي رشحتها لهذه الوساطة وإدارة التفاوض بشكل ملموس، وفي مقدمتها موقعها الذي يحول دون التوصل إلى اتفاق يتجاهل دوراً حقيقياً لها فيه وتحكمها بالمضايق، إضافة إلى علاقاتها الجيدة مع الجانبين وعضويتها في حلف الناتو ووساطتها السياسية السابقة وخبرتها فيها.
بعد توقيع الاتفاق أعرب الرئيس التركي عن أمله أن يكون خطوة أولى يبنى عليها لاحقاً لتفعيل الوساطة السياسية التركية بهدف الوصول إلى وقف إطلاق النار ثم هدنة طويلة الأمد ثم اتفاق سلام شامل بين البلدين.
ولعل أحد أهم عوامل نجاح الاتفاق مرهون بالمكاسب التي تتوخاها كل الأطراف منه، إذ إنه بني بالأساس على معادلة ربح الجميع ولا يبدو أنه يوجد –في المجمل– خاسر منه. وإذا كانت المكاسب الاقتصادية (وكذلك السياسية) لكل من أوكرانيا وروسيا ثم باقي العالم واضحة للعيان، فإن المكاسب التركية من الاتفاق تحتاج إلى نظرة أقرب.
بعض التقارير تتحدث عن حصول تركيا على أسعار تفضيلية للحبوب وباقي المنتجات باعتبار وساطتها ودورها في تنفيذ الاتفاق فضلاً عن قربها الجغرافي، لكن ذلك -إن صح- شيء هامشي جداً مقابل المكاسب الجوهرية التي حققتها.
ففي المقام الأول يعد الاتفاق إنجازاً دبلوماسياً كبيراً لأنقرة، فهو اتفاق حال دون حصول مجاعة عالمية أو على أقل تقدير استمرار ارتفاع أسعار الحبوب والمواد الزراعية، إذ يميل كاتب هذه السطور إلى أن تكون التحذيرات من مجاعة عالمية مبالغاً بها لأسباب مفهومة.
هذا الإنجاز الذي وصفه غوتيريش بالتاريخي وغير المسبوق يضفي زخماً على الدبلوماسية التركية ويذكّر بسنوات طويلة –قبل 2011– اشتهرت فيها تركيا بكونها وسيطاً في عدة أزمات إقليمية وبين عدة أطراف متباعدة. كما يحمل الإنجاز بُعداً إضافياً مع تبني أنقرة منذ سنتين فكرة الحلول الدبلوماسية للأزمة بإطلاقها "منتدى أنطاليا الدبلوماسي" الذي نظمت مؤخراً نسخته الثانية.
وثانياً تعوّل تركيا على أن يدفع هذا الاتفاق نحو تجديد وساطتها السياسية بين موسكو وكييف وتنشيطها. هنا تراهن أنقرة على النموذج الذي نجح في مفاوضات أزمة الحبوب، وهو كونها وسيطاً جادّاً وموثوقاً من الجانبين، والرعاية الأممية، ورغبة الطرفين في التوصل إلى اتفاق، إضافة إلى دعم الأطراف الثالثة وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية. وترى تركيا أن هذا النموذج قابل للتكرار فيما يتعلق بوقف الحرب بين البلدين الجارين لها، إذ إن الحرب "ستحسم في نهاية المطاف بالجلوس إلى طاولة والتوصل إلى حل سياسي" على ما قال أردوغان.
ومما يشجع على ذلك أن الحرب طالت من دون أفق بنهايتها ولا احتمالية كبيرة لانتصار طرف على الآخر، ما يعني أن استدامتها لن تؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر لدى الجانبين على جميع الصعد.
كما أن الجهود التي كانت أنقرة بذلتها بين الجانبين أنتجت لقاءً مباشراً بين وزيرَي خارجية البلدين في أنطاليا، كما وصل التفاوض بين البلدين إلى تحديد ستة بنود تشكل اتفاقاً محتملاً بين الجانبين، أربعة منها وافق عليها الجانبان وفق ما رشح، ما يعني أن أي استئناف للوساطة التركية لن يعني البدء من الصفر وإنما البناء على ما سبق.
وثالثاً، فإن جهود تركيا في الوساطة ستساهم في تحسين علاقاتها بمختلف الأطراف وخصوصاً روسيا وأوكرانيا، وهو بعد له أهميته فيما يتعلق بروسيا تحديداً، لا سيما على هامش القضايا ذات الاهتمام المشترك التي يؤثر الموقف الروسي فيها بمصالح تركيا بأشكال مباشرة وغير مباشرة، وفي مقدمتها العملية التي تلوح بها في الشمال السوري.
وتنبغي هنا ملاحظة أن الاتفاق يعطي أنقرة نفوذاً غير مباشر على كل من روسيا وأوكرانيا، إ إن مركز التنسيق والقيادة المعني بعمليات المتابعة والرقابة والتفتيش سيكون في مدينة إسطنبول. كما سيكون على تركيا كوسيط في الاتفاق الموقع الإشارة إلى أي طرف ينتهك الاتفاق أو يخرقه أو يعوق تنفيذه. وأخيراً فإن الاتفاق يلحظ إمكانية "اللجوء إلى طرف ثالث" لدى حصول اختلاف في التفسير لدى تنفيذ الاتفاق، والطرف الأرجح لهذا الدور ستكون تركيا لما سبق تفصيله من أسباب وعوامل.
ورابعاً وأخيراً فإن هذا الإنجاز لتركيا يزيد من أهميتها وقيمة الأدوار التي تلعبها وأوراق قوتها في التعامل والتفاوض مع الغرب عموماً وواشنطن على وجه الخصوص. وهو أمر يضاف إلى عناصر القوة التركية إزاء الغرب على هامش الحرب الروسية–الأوكرانية بما في ذلك امتلاك قرار المضايق، ووقف استخدام الطائرات الروسية لأجوائها، والوساطة، والعلاقات الجيدة مع طرفَي الحرب.
هذا المتغير المهم قرأه حلفاء تركيا التقليديون في الغرب، وأقصد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، بشكل واضح وبنوا عليه. فزيارة رئيس الوزراء اليوناني لتركيا قبل أشهر ولقاؤه أردوغان لا يمكن النظر إليها كتصرف فردي من أثينا وإنما خطوة أوروبية/أطلسية بدافع من إدراك الأدوار التي يمكن لتركيا أن تلعبها في مواجهة التهديدات الأمنية المستجدة للقارة الأوروبية بعد الحرب الروسية–الأوكرانية.
ختاماً، ورغم وجود تحديات كبيرة تحيط بتنفيذ الاتفاق، بالأساس بسبب استمرار حالة الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فإن ذلك لا يقلل من حجم إنجاز تركيا ومكاسبها التي ينبغي أن يضاف إليها أنه سيجعل الدبلوماسية التركية علامة مسجلة مرة أخرى للتوسط في الأزمات الإقليمية والدولية والمساهمة في حلها، وهو رأس مال معنوي وسياسي بالغ الأهمية بالنسبة إلى أنقرة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.