فقد ساقتني أقداري إلى أن أتعرف هذا البلد أثناء عملي بالأمم المتحدة وشاهدت بأم عينيّ الأوضاع المأساوية التي يعيشها السكان والدمار الهائل الذي لحق بالبلاد نتيجة الحروب المتواصلة مرة مع الغرباء ومرات مع أمراء الحروب.
فبعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 طلبت مني الأمم المتحدة أن ألتحق بمكتب الأمم المتحدة بإسلام أباد أولاً للعمل من هناك حيث كانت الحرب على الأبواب بعد اعتماد مجلس الأمن القرار 1368 (2001) الذي فوض الولايات المتحدة للرد على الهجمات دفاعاً عن النفس.
وصلت العاصمة الباكستانية يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أي أن الحرب بدأت ونحن في الجو، وكنا نعقد مؤتمراً صحفياً كل مساء في فندق ماريوت الضخم في العاصمة الباكستانية.
واستمر عملنا من إسلام آباد لمدة شهرين متواصلين. في هذه الفترة زرت مدينة بيشاور، ذات الأغلبية الباشتونية، كما زرت مخيمات اللاجئين الأفغان ورأيت عشش الصفيح التي أُطلق عليها مجازاً كلمة "مدرسة".
معظم هؤلاء الصغار من ضحايا الحرب مع الاتحاد السوفييتي أو الحروب الأهلية التي تلت الانسحابات بعد هزيمة السوفييت عام 1989، يسمون إلى الآن "طالبان"، لا يتعلمون شيئاً ولا مجال أمامهم لأن يتعلموا، هؤلاء لا يوجد أمامهم مستقبل إلا حمل السلاح والانضمام إلى الجماعات المقاتلة.
انسحبت حركة طالبان من كابول يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2001 فقرروا إرسالنا إلى كابول. وكانت فرصة أن أحتك بالشعب الأفغاني المسكين. كان الخوف يسيطر على الجميع لما عانوا منه تحت حكم طالبان من 1996 إلى نوفمبر 2001. لكن لا أحد يريد للأجنبي أن يسيطر على البلاد. فالأفغان بطبعهم لا يحبون الأجنبي ولذلك ظلوا يعيشون في عزلة عن العالم ولا يقبلون من أحد أن يوجههم أو يعطيهم أوامر.
وأذكر أنني التقيت السيدة مسعودة جلال، التي رشحت نفسها للرئاسة ضد حامد كرزاي، ولم يأخذها أحد بشكل جاد، والتي كانت تعمل مع برنامج الأغذية العالمي، قلت لها لماذا يوجد الشادور والبرقع بجانبك؟ قالت عندما أخرج أرتدي البرقع كي لا يؤخذ عليّ أنني مناصرة للأمريكان. فمن يدري ماذا تخبّئ الأيام لأفغانستان إذا ما تخلى الأمريكان عنّا بعد سقوط طالبان. لقد فعلوها عام 1989 بعد انسحاب السوفييت وقد يكرروها، ولذلك لا أريد أن أكسر الجسور بيني وبين طالبان فقد يعودون مرة أخرى إلى حكم البلاد.
وبالفعل عاد مقاتلو طالبان وهزموا الإمبراطورية الثالثة بعد هزيمة كل من بريطانيا والاتحاد السوفييتي، الفرق بين الهزائم الثلاثة في الفترة الزمنية، فبريطانيا تحملت ثلاث سنوات (1839-1841)، والاتحاد السوفييتي عشر سنوات (1979-1989) والولايات المتحدة عشرين سنة (2001-2021). شعب يأبى أن يحكمه الأجنبي. أما تعاملاته الداخلية فتلك قصة أخرى.
قسوة الطبيعة
أفغانستان بلاد واسعة مغلقة جافة جرداء جبلية لا بحر ولا بحيرات وتحيط بها ست دول ليست على وفاق مع معظمها. تجمد فيها التاريخ مثل جمود الجغرافيا وكأن الناس يعيشون في زمن آخر.
ولكثرة مصائبها التي صنعها الإنسان، الخارجي منه والداخلي ينخفض عمر الفرد إلى 52 للرجال و 53 للنساء ونسبة وفيات الأطفال دون الخامسة تصل إلى 104 من كل ألف وهي من أعلى النسب في العالم. كما أن أمراضاً خطيرة ما زالت منتشرة في البلاد مثل الملاريا والتيفوئيد والحمى الصفراء وشلل الأطفال.
إضافة إلى هذه المصائب والحروب المتواصلة منذ سبعينيات القرن الماضي، لم ترحم الطبيعية سكان هذه البلاد. فبالإضافة إلى الأرض اليباب والجبال الشاهقة مرت البلاد في الأربع سنوات الماضية بموجة جفاف قاسية أهلكت الزرع والضرع ثم جاء وباء كورونا ليكمل الصورة المأساوية ويهدد نحو 14 مليون أفغاني في أمنهم الغذائي.
صباح الأربعاء يوم 22 يونيو/حزيران أرسلت الطبيعة مصيبة أخرى ممثلة في زلزال مدمر بقوة 6.1 على مقياس ريختر، ضرب المنطقة الوسطى في أفغانستان، وألحق ضرراً بالغاً بأربع ولايات مجاورة في إقليم بكتيكا، غايان وبرمالا وناكا وزيروك وكذلك ولاية سبرا في إقليم خوست. وأكدت التقارير أن نحو 1000 أفغاني على الأقل قُتلوا في الزلزال، كما جُرح أكثر من 2000 هذا عدا عن المشردين ومن دُفنوا تحت الأنقاض.
نصيب الحكومة من اللوم
كان يمكن لحركة طالبان ألا تعيد إنتاج الطبعة الأولى من حكمها وتفتح صفحة جديدة مع شعبها أولاً ومع جيرانها ومع العالم. مشاهد الجلد والرجم التي انتشرت في البلاد بعد سيطرة طالبان عام 1996 كان يجب ألا تتكرر بخاصة وأن البلاد بحاجة إلى مساعدات ضخمة ولا تستطيع أن تقف على قدميها وحدها في ظل سلة المصائب تلك ورزمة العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على البلاد.
لقد أعطت الحركة وعوداً عريضة في بداية سيطرتها على البلاد في سبتمبر 2021 ما جعلنا نتفاءل بأن مرحلة من الانفتاح والمسؤولية ستبدأ الآن، لكن خيبوا ظننا فيهم و"عادت حليمة إلى عاداتها القديمة".
كل التقارير تؤكد أن طالبان ما زالت ترتكب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين والصحفيين والنساء والأطفال. وقالت مفوضية حقوق الإنسان إن عديداً من الفظائع ما زالت ترتكب في البلاد وتحصد الأرواح وتنشر الرعب، وتجعل إمكانية تحقيق السلام الداخلي بعيدة المنال.
بعد أن سمحوا للمرأة أن تواصل تعليمها عادوا وقيدوه من جديد وأصدروا فرمانات ثقيلة ضد خروج المرأة وعملها ولباسها. حقوق المرأة في التعليم والعمل والخدمات الصحية الأساسية، آخذة في التناقص ومستقبل أربعة ملايين فتاة في المدارس والجامعات أصبح الأن مهدداً تماماً. كما أن حرية التعبير مقيدة وكثيراً من وسائل الإعلام تم إغلاقها. وحماية الأقليات غير مضمونة وتكوين حكومة واسعة التمثيل لم يتم. هذه وعودهم التي رحبنا بها عندما أعلنوها. لكن الوعود شيء والتنفيذ شيء آخر.
المجتمع الدولي انتظر من حركة طالبان وفاءً بتلك العهود، لكن النظام يعيش في عزلة خانقة في الوقت الذي هو بحاجة إلى مساعدات عاجلة وخاصة بعد الزلزال.
فبدلاً من التفاوض على نظام شامل يجمع الأطياف الأفغانية كلها دون إقصاء أو استحواذ، عادت الحركة وسيطرت على كل مفاصل البلاد وعادت إلى طبيعتها التي كنا نعتقد أن التجربة الطويلة في المنفى والاطلاع على أوضاع العالم سيؤدي إلى تغييرات جذرية في المرحلة التي تبعت خروج الأمريكيين.
الدعم الدولي والانفتاح على حكومة طالبان سيظل مرتبطاً مع أي حكومة مستقبلية بمدى التزامها بالمشاركة الشاملة وحماية حقوق الإنسان وخاصة معاملة المرأة بكرامة. إنها فرصة تعطي الحركة فسحة للتوصل إلى حل شامل لمشكلات البلاد السياسية والأمنية وهو الضمان الوحيد لبقاء المجتمع الدولي منخرطاً في الشأن الأفغاني. ونعتقد أن هذه مصلحة عليا للشعب الأفغاني أولاً ولحركة طالبان ثانياً.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.