تشهد الأراضي الفلسطينية في الآونة الأخيرة حالةً من الحراك الأمريكي البعيد عن الكواليس، المتمثل في دعوات ولقاءات مع شخصيات فلسطينية غير رسمية، في مسعى لا تخطئه العين للبحث عن قيادة فلسطينية بديلة في ظل القطيعة السائدة بين رام الله وواشنطن.
السطور التالية تسلط الضوء على هذه التطورات، ومن الأشخاص الذين تلتقيهم
الإدارة الأمريكية بعيداً عن القيادة الفلسطينية: سياسيين أو اقتصاديين أو
أكاديميين، وهل لديهم الكفاءة لمنافسة السلطة، وما مدى قدرتهم على طرح برامج
سياسية بديلة؟ وفرضها على الأرض، وما سلوك السلطة إزاء هذه القيادات البديلة عنها؟
منذ أن بدأت القطيعة السياسية بين السّلطة الفلسطينية والإدارة الأمريكية بعد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في ديسمبر/كانون الأول 2017، ثم نقل السفارة الأمريكية إليها في مايو/أيار 2018، أخذت العلاقات بين رام الله وواشنطن تشهد توتراً متصاعداً، وجد طريقه عبر جملة من الخطوات غير المسبوقة.
فقد دأب المسئولون الفلسطينيون والأمريكيون على تبادل الاتهامات الشخصية
عبر شبكات التواصل، وأقدمت واشنطن على إغلاق مكتب منظمة التحرير فيها، وأوقفت أي
اتصالاتٍ مع الرئيس محمود عباس، الذي لم يقصر بدوره في توجيه شتائم غير دبلوماسية
ضد الرئيس دونالد ترمب وسفيره في تل أبيب ديفيد فريدمان، فضلاً عن فرض سلسلة من
العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد السلطة الفلسطينية.
هذه ليست المرة الأولى التي تذهب فيها الإدارة الأمريكية للبحث عن بدائل للقيادة الفلسطينية فقد فعلها الرئيس الأسبق جورج بوش الابن في 2002-2003 حين قطع أي اتصالات مع الرئيس الراحل ياسر عرفات.
وسط هذه القطيعة، أعلن مسؤولون أمريكيون محيطون بترمب، لا سيما مبعوثه للمفاوضات الدولية جيسون غرينبلات، وصهره وكبير مستشاريه جيراد كوشنير، أن واشنطن تلتقي فلسطينيين من خارج القيادة، وأن استمرار مقاطعة عباس للتسوية الأميركية للقضية الفلسطينيّة سيضطر واشنطن إلى من قد يملأ الفراغ، مع أنها كسرت القطيعة مع رام الله، وأرسلت تهنئة لرئيس الحكومة الجديد محمد اشتية، كأول اتصال رسمي منذ 2017.
هذه ليست المرة الأولى التي تذهب فيها الإدارة الأمريكية للبحث عن بدائل للقيادة الفلسطينية، فقد فعلها الرئيس الأسبق جورج بوش الابن في 2002-2003، حين قطع أي اتصالات مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، وأتى بمحمود عباس آنذاك ومعه سلام فياض ومحمد دحلان، ليكونوا بديله القادم.
لم يتوقع عباس أن يدور الزمان دورته، وتأتي إدارة أمريكية جديدة، وتسعى للبحث عن بديل له، وكأن الجزاء من جنس العمل، إذ شرعت واشنطن في الشهور الأخيرة في ترديد عبارات مفادها اقتراب طي صفحة عباس، وبدء إجراءاتها التحضيرية لليوم الذي يلي غيابه، والشروع بمباحثات مع شخصيات فلسطينية من مختلف القطاعات: السياسية، الاقتصادية، الأكاديمية، لعلها ترى فيها بديلاً ملائماً لعباس وفريقه.
يصعب في هذه السطور سرد قائمة محددة بأسماء الشخصيات التي تلتقيها واشنطن، سواء لعدم توفر أسماء محددة، أو لأسباب تتعلق بعدم التجريح والتعرض الشخصي، لكنّ المتوفر لدى كاتب السطور وجود شخصيات من غزة والضفة يلتقون نظراءهم الأمريكان، في القدس وتل أبيب وواشنطن وبعض العواصم الغربية، تارة ضمن مؤتمر، وأخرى للتشاور، وثالثة لجس النبض، تجاه توقعاتهم لمستقبل الوضع الفلسطيني.
هذا يعني أن هناك رغبة أمريكية ملحّة لإيجاد قيادة فلسطينية بديلة، بالتعاون مع شخصيات فلسطينية، ضمن خطة تقوم على إيجاد مسار تواصل مع فلسطينيين يتجاوزون عباس، وتتضمن: أكاديميين ورجال أعمال وسياسيين، رغبة في إجراء حوار مباشر معهم بعيداً عن القيادة السياسية.
هناك رغبة أمريكية ملحّة لإيجاد قيادة فلسطينية بديلة بالتعاون مع شخصيات فلسطينية ضمن خطة تقوم على إيجاد مسار تواصل مع فلسطينيين يتجاوزون عباس.
تدرك السلطة الفلسطينية برئاستها الحالية أن الجهود الأمريكية التي أتت بها
على أنقاض عرفات، قادرة على تكرار السيناريو ذاته مع قادة جدد، لا سيما أن عباس
وفريقه في وضع داخلي وخارجي لا يحسدون عليه، ما قد يشجع واشنطن على فتح قنوات
جديدة مع شخصيات فلسطينية من جهة، ويجعل هذه الشخصيات أكثر جرأة بتجاوز القيادة
الحالية، وهي تراها تفتقر للدعم الشعبي، وتعيش عزلة إقليمية ودولية.
بدأ الحراك الأمريكي باللقاء بشخصيات فلسطينية في ديسمبر/كانون الثاني
2017، حين التقى غرينبلات بالقدس ثلاث شخصيات من قطاع غزة والضفة الغربية. وفي
فبراير/شباط 2018، نشّطت الإدارة الأمريكية من محاولاتها لفتح قنوات اتصال مع
شخصيات فلسطينية للحديث عن المرحلة المقبلة، وتضمنت دعوة بعضهم لزيارة واشنطن.
وفي يوليو/تموز 2018 ظهر على الساحة الفلسطينيّة نجم سياسي جديد هو رجل
الأعمال عدنان مجلي، الذي عقد اجتماعات وفاعليات شعبيّة ورسمية، وعلى الرغم من
إعلانه أنه لا يتلقّى دعماً أميركيّاً للمشاركة في خلافة عبّاس، لكنه لم ينكر
ارتباطه بعلاقات وثيقة مع النخبة الأمريكية الحاكمة، لا سيّما مع الحزب الجمهوريّ،
وقد رتّب الاتّصال الأوّل بين ترمب وعبّاس في مارس/آذار 2017.
لم تُبد السلطة الفلسطينيّة تحمّساً كبيراً إزاء ظهور مجلّي، ربّما لأنّه ليس فتحاويّاً، وخارج المنظومة الحاكمة، وقد تخشى أن يتمّ فرضه عليها من المجتمع الدوليّ بعد غياب عبّاس، لكن الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة أجبرت البنك العربيّ على تجميد حساباته.
في الشهر ذاته، يوليو/تموز 2018، ظهر سلام فياض، رئيس الوزراء الأسبق، بعد غياب سنوات عدة منذ 2013، والتقى عباساً، بعد أن أغلقت الأجهزة الأمنية الفلسطينية مؤسسة فلسطين الغد التي يترأسها، مع أن فياض يرتبط بشبكة علاقات واسعة في واشنطن، وقد تم فرضه على عرفات وزيراً للمالية في 2003.
آخر التحركات والأكثر وضوحاً في التعامل الأمريكي مع شخصيات فلسطينية ترى فيها بديلاً مقبولاً من القيادة الحالية تمثل في مؤتمر شهده فندق الملك داود بمدينة القدس في فبراير/شباط 2019، جمع عدداً من المسئولين الأمريكيين وعلى رأسهم السفير في إسرائيل ديفيد فريدمان، ورجل الأعمال الإسرائيلي المشهور رامي ليفي، وعدد من الشخصيات الفلسطينية على رأسهم أشرف الجعبري من مدينة الخليل.
آخر التحركات والأكثر وضوحاً في التعامل الأمريكي مع شخصيات فلسطينية ترى فيها بديلاً مقبولاً من القيادة الحالية تمثل في مؤتمر شهده فندق الملك داود بمدينة القدس في فبراير/شباط 2019.
هذا المؤتمر ليس الأول من نوعه الذي جمع فلسطينيين وأمريكيين وإسرائيليين، لكنه الأول الذي شهد صدور تصريحات ومواقف أمريكية ذات دلالات سياسية لا تخطئها العين، حين وجّه فريدمان كلامه للجعبري، واصفاً إياه بـ"الصديق"، قائلاً "باسم الولايات المتحدة لا نسعى لشريك أفضل منك"، كاشفاً النقاب أنه سيتم دعوته مع بعض رفاقه في الأشهر القادمة للقاء ترمب.
يمكن القول بأن الجعبري ورفاقه باتوا مقربين للإدارة الأمريكية، لأن
المؤتمر الذي شاركوا فيه، وإن جاء تحت لافتة التعاون الاقتصادي، فقد ذكر فريدمان
خلاله أن واشنطن تسعى لإيجاد اتفاق سياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين مختلف عن
اتفاق أوسلو، ما يعني أنه لا يوجد برام الله من تتحدث معه واشنطن.
التطور الأهم جاء بانطلاق حزب فلسطيني جديد باسم "حزب الإصلاح والتنمية" في أبريل/نيسان 2019، أعلن عدة مبادئ لافتة وغير متداولة في الخطاب السياسي الفلسطيني التقليدي، ومنها رفض أشكال "الإرهاب" كافة، وفتح باب الحوار مع المؤسسات الإسرائيلية غير الحكومية، وقد تشكلت الهيئة التأسيسية للحزب من أشرف وخضر الجعبري، وعيسى علان، وخلدون الحسيني، وشرف غانم، ونصر الزرو التميمي.
على الرغم من التنديد الفلسطيني الرسمي بالمساعي الأمريكية لكنها كما يبدو ماضية بدون كوابح وإن كانت بخطى وئيدة.
حركة فتح التي يترأسها عباس هاجمت الحزب، وعدته يهدف لبسط سيادة الاحتلال على الأراضي الفلسطينية، متعهدة بمحاسبة منظّميه، والمشاركين فيه، الساعين للقضاء على المشروع الوطني، كما هدد نشطاء فلسطينيون بفضح أي شخصية تلتقي الإدارة الأمريكية، بوصفها خيانة، وسبق لشبان فلسطينيين أن تصدَّوا لوفد أمريكي زار غرفة التجارة والصناعة في بيت لحم جنوب الضفة، ورفضوا اجتماعه برجال أعمال فلسطينيين.
أخيراً.. بات واضحاً أن المساعي الأمريكية للعثور على قيادة فلسطينية بديلة لعباس وضعت قدمها على الطريق، وعلى الرغم من التنديد الفلسطيني الرسمي بهذه المساعي، لكنها كما يبدو ماضية بدون كوابح، وإن كانت بخطى وئيدة، في ظل اقتراب أفول العهد السياسي لعباس، وعدم وجود توافق فلسطيني داخلي حول تنظيم مسألة وراثته، ما يفسح المجال للدخول الأمريكي على الخط، وبقوة، في البحث عن الشخصيات الفلسطينية المرشحة لأن تكون بديلة لعباس، أو وريثة له.