يعود تاريخ الصراع بين أذربيجان وأرمينيا إلى عام 1991، إثر دعم أرمينيا انفصال إقليم "قره باغ" عن أذربيجان، ثم أكملت أرمينيا تصعيدها عن طريق احتلال ممر ضيق يصل بين "قره باغ" والأراضي الأرمينية ويدعى "ممر لاتشين".
عام 1993 احتلت أرمينيا المزيد من الأراضي الأذربيجانية، ثم جرى توقيع اتفاقية لوقف إطلاق النار عام 1994 ثبتت الأمر الواقع إلى يومنا هذا، دون أن يتم حل جوهر القضية، وهو الأراضي الأذربيجانية التي أخضعتها أرمينيا بالقوة.
في شهر يونيو/حزيران 2020 شهد الصراع الأرميني الأذربيجاني منعطفاً مهماً، حين اندلعت مواجهات للمرة الأولى خارج إقليم "قره باغ" المتنازع عليه، وخارج الأراضي الأذربيجانية التي تحتلها أرمينيا، فدارت مواجهات عسكرية في منطقة "تافوش" الحدودية بين البلدين، حيث شنت القوات الأرمينية هجوماً مدفعياً على مواقع تتبع للجيش الأذربيجاني، ليتطور الأمر إلى اشتباكات.
في السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول الجاري عادت القوات الأرمينية إلى الاعتداء على الأراضي الأذربيجانية، فقامت بقصف مناطق عسكرية تتبع الجيش الأذربيجاني، ليرد الأخير بشن عملية عسكرية في إقليم "قره باغ"، مؤكداً أنه استطاع السيطرة على ست قرى في غضون ساعات.
تعتبر منطقة قزوين التي تقع فيها كل من أذربيجان وإقليم "قره باغ" منطقة استراتيجية، وتشكل إحدى البوابات الهامة للعبور باتجاه أوروبا ولتمرير الطاقة إلى القارة الصناعية.
وبسبب أهمية المنطقة، ونتيجة للتنافس المحموم التاريخي بين دول بحر قزوين، أبرزها إيران وروسيا وأذربيجان، فقد أفرز الصراع الأذربيجاني الأرميني اصطفافات دولية، حيث تسعى أطراف عديدة لاستثماره كورقة ضغط ضد الخصوم.
ترتبط تركيا بعلاقات تاريخية وعرقية مع أذربيجان، بل إن الأحزاب السياسية التركية (باستثناء حزب الشعوب الديمقراطي) تتبنى شعار "شعب واحد في بلدين"، وذلك لأن سكان أذربيجان ينتمون إلى العرق التركي، كما أن غنى هذا البلد بالنفط والغاز وحاجته إلى أسواق تصريف ساهما في توطيد العلاقة أكثر مع أنقرة لتصبح تحالفاً استراتيجياً.
تعتمد تركيا على أذربيجان كمصدر رئيسي للطاقة، وساعدها ذلك في تخفيض اعتمادها على روسيا في تلبية احتياجاتها من الغاز إلى قرابة 42%، بعد أن كانت حتى عام 2015 تستورد 58% من احتياجاتها من روسيا، وفي عام 2019 نفذت أنقرة مشروع وصل خط غاز "تاناب" القادم من أذربيجان بخط غاز "تاب" قرب الحدود التركية الأوروبية، ليصبح شرياناً مهماً لتغذية أوروبا بالغاز الطبيعي.
دشنت تركيا الكثير من المشاريع الاقتصادية مع أذربيجان أهمها خط نقل الطاقة "باكو–جهان"، بالإضافة إلى خط السكة الحديدية (باكو–فليكس–قارص)، ولذا فإن أي استهداف لأذربيجان سيضر بالمصالح التركية.
روسيا من جهتها وجدت في هذا الصراع وفي موقع أرمينيا فرصة مهمة من أجل الضغط على المصالح الأوروبية والتركية، إذ تتيح المرتفعات الأرمينية الإشراف على طرق إمداد وخط أنابيب الغاز الواصلة بين أذربيجان وأوروبا عن طريق تركيا.
ففي عام 2016 قدمت روسيا قرضاً لأرمينيا من أجل شراء أسلحة تساهم في زيادة التفوق الأرميني على أذربيجان، في خطوة هدفها تعزيز الموقف العسكري الأرميني في مواجهة أذربيجان وحليفتها تركيا.
وصول النزاع إلى منطقة "توفوز" المحاذية لمرور خط أنابيب القوقاز المغذي لخط "تاناب" الذي ينقل الغاز من أذربيجان إلى تركيا، يترك علامات استفهام كبيرة عن وجود أطراف أخرى تؤجج الصراع لتستعمله لمصلحتها، خاصة أن ذلك تزامن مع جولة مفاوضات تركية روسية في أبريل/نيسان 2020 من أجل تجديد اتفاقية توريد الغاز إلى تركيا بأسعار أخفض من السابق، دون تمكن الطرفين من التوصل إلى اتفاق، وهذا عزز من اتجاه تركيا إلى أذربيجان كبديل رئيسي عن روسيا، وهذا بطبيعة الحال زاد مخاوف موسكو من فقدانها لمكانتها ضمن سوق الطاقة التركي.
من غير المستبعد أن تلجأ روسيا إلى دفع أرمينيا إلى التصعيد العسكري في منطقة شبكة أنابيب الغاز قرب الحدود مع أذربيجان، من أجل التأثير على قرار أنقرة النهائي، ودفعها إلى عدم التخلي كلياً عن الغاز الروسي ضمن المفاوضات المستمرة حول تجديد عقود توريد الغاز بين البلدين التي تنتهي مع حلول عام 2021، وهذا يتوافق مع الاستراتيجية الروسية التي تعتمد على الضغط المستمر على أوروبا عن طريق ملف الطاقة.
كما أن موسكو قد تفكر في تأجيج الصراع بهدف إشغال أذربيجان ذاتها، وذلك في سياق منعها من التحول إلى مورد رئيسي للغاز والنفط لدول العالم خاصة أوروبا وتركيا، لأن هذا التموضع الأذربيجاني في سوق الطاقة العالمي سيكون على حساب حصة روسيا في أسواق الطاقة العالمية والتركية والأوروبية.
إيران أيضاً تمتلك علاقات وشراكات مهمة مع أرمينيا، على اعتبار أن بين طهران وأذربيجان منافسة قديمة في منطقة بحر قزوين، وبالتالي لا يمكن استبعاد لجوء طهران إلى تقديم دعم عسكري لأرمينيا في مواجهة أذربيجان، وستحقق إيران عدة أهداف من دعم أرمينيا وإشعال فتيل الصراع، أبرزها الضغط على أذربيجان لضبط نشاطها في سوق الطاقة، ومحاولة تهديد مصدر طاقة مهم بالنسبة إلى أوروبا وبالتالي التأثير على موقفها من العقوبات الأمريكية، وأيضاً الضغط على تركيا التي تبدي تجاوباً كبيراً مع العقوبات الأمريكية، وتخلت بشكل شبه كامل عن الغاز والنفط الإيرانيين.
أطراف أخرى من مصلحتها أن يشتعل الصراع في منطقة تعتبر ذات أهمية جغرافية واقتصادية بالغة بالنسبة إلى تركيا، وذلك في إطار إشغالها عن منطقة شرق المتوسط وإضعاف ثباتها هناك، والمقصود هنا كل من فرنسا واليونان، على الرغم من أنه لا توجد دلائل حقيقية على تورط هذه الدول في تقديم الدعم المباشر لأرمينيا، إلا أن هذا الاحتمال يبقى قائماً.
يبدو أن أنقرة قررت استثمار اللحظة الراهنة والاعتداء الأرميني المتكرر على الأراضي الأذربيجانية لتحقيق مكاسب على الأرض من خلال دعم عمليات الجيش الأذربيجاني، وظهر ذلك جلياً من خلال مشاركة الطائرات المسيرة التركية في المواجهات يوم أمس، خاصة أن الظرف سيكون مواتياً في ظل الانشغال الأمريكي بالتحضير للانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو ما يضع السياسة الأمريكية عادة في وضع "البطة العرجاء" كما يحب متابعو السياسة الأمريكية وصفها، وهو يعبر عن السير البطيء وبالحد الأدنى دون سياسة خارجية نشطة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.