منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، والأصوات تتحدث عن خطر استخدام الأسلحة النووية. خصوصاً مع بعض المؤشرات التي بعثتها موسكو من قبيل وضع القوات الاستراتيجية الروسية (النووية) على أهبة الاستعداد. وفي الوقت الذي كان يُنظر إلى هذه المؤشرات في سياق الحرب النفسية ما بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى، فإن طابع هذه المؤشرات أصبح يكتسب بعض المصداقية بعد التطورات الأخيرة، وبالتحديد بُعيد استهداف جسر القرم الرابط بين جزيرة القرم (التي ضمتها روسيا عام 2014) والبرّ الروسي والذي يُعتبر أحد أبرز إنجازات الرئيس بوتين طيلة فترة حكمه الأمر الذي ظهر وكأنه محاولة لإهانة الرئيس شخصياً وتوجيه ضربة لمشروعه التوسعي.
خرج الرئيس الروسي، في أثناء إعلانه التعبئة الجزئية لقوات بلاده للرد على الهجمات المضادة التي قامت بها أوكرانيا في الجبهة الشرقية، بتصريحات أكد فيها أن روسيا ستكون مستعدة لاستخدام جميع الأسلحة للدفاع عن أراضيها وهو ما فُهم أنه تلويح باستخدام الأسلحة النووية.
غير أن الرئيس السابق ورئيس مجلس الأمن القومي ديمتري ميدفيديف (الذي يُعرف باعتداله) كان أكثر صراحة حيث عبّر عن موقف متشدد بقوله إن "موسكو ستستخدم كل سلاح في ترسانتها، بما في ذلك الأسلحة النووية الاستراتيجية لحماية الأراضي التي تنضمّ إلى روسيا في أوكرانيا"، وفق ما نقلت وكالة رويترز، وهو بذلك يشير إلى الأقاليم الأربعة التي ضمتها روسيا وهي زابوريجيا وخيرسون ودونيتسك ولوغانسك إثر إجراء استفتاء شعبي أثار الكثير من الجدل حول شرعيته.
الفريق الذي يُرجّح استخدام روسيا للأسلحة النووية (التكتيكية في الغالب) يرون أن الحرب لا تأخذ طابعاً تصاعدياً في مسار العمليات العسكرية وطبيعة الأهداف التي تُضرب (مثل جسر القرم، أو أنابيب الغاز التابعة لنوردستريم) وحسب، بل أيضاً في طبيعة الحرب بحدّ ذاتها. فقد حدث تحوّلان بطبيعة الحرب يؤشران على حقبة جديدة من الصراع ما بين روسيا والغرب. أولاً، ومن جانب الدول الغربية، لم تعد الحرب مجرّد دعم أوكرانيا لتحقيق نصر على روسيا وحسب بل أصبحت الاستمرار بالحرب القدر الذي يمنع روسيا من التسبب بمزيد من المشاكل لأوروبا مستقبلاً. بعبارة أخرى، الاستمرار في الحرب حتى إخضاع روسيا.
ثانياً، ومن جانب روسيا، فالحرب لم تعد عمليات خاصة من أجل القضاء على ما يُطلق عليه بالنظام النازي في كييف، بل ضد الجماعات العسكرية الإرهابية التي تهدد الأراضي الروسية ومن ضمنها تلك التي ضمّتها إليها مؤخراً في الشرق الأوكراني. بعبارة أخرى، بالنسبة لها فإنّ الحرب لم تعد حرباً هجومية بل دفاعية في جوهرها.
على صعيد آخر، يرى فريق آخر (وهو الأكثر ترجيحاً) أن استخدام روسيا للأسلحة النووية سيكون احتمالاً بعيداً لأسباب ثلاثة:
أولاً: تواجه روسيا تنديداً دولياً جراء حربها العدوانية على أوكرانيا منذ بداية الأزمة. وبالرغم مِن أن الأمم المتحدة فشلت في تمرير قرار أممي بإدانة روسيا لضمّها المناطق الأوكرانية عبر الاستفتاء الشعبي المشكوك في نزاهته، حيث صوتت 10 دول فقط في مجلس الأمن الدولي لصالح القرار في حين امتنعت عن التصويت أربعة أخرى (هي الصين والهند والبرازيل والغابون)، فإنّ عدم اعتراف الكثير من الدول بهذا الضمّ يؤشر على عدم رضاها عن هذه الخطوة الروسية.
ترقّب روسيا بعين حذرة موقف كلٍّ مِن الصين والهند على وجه التحديد. وتحاول قدر الإمكان الإبقاء على هاتين الدولتين الأكبر عالمياً في عدد السكان في صفّها أو على الأقل إبقائهما في وضعية الحياد. وهو حياد يعمل لصالح روسيا بنهاية المطاف. فالهند الحليف التاريخي للغرب قد أخذت موقفاً مغايراً، حيث لم تنساق وراء العقوبات الغربية على روسيا، كما رفضت إيقاف استيراد النفط الروسي أو حتى الأسلحة الروسية.
تُخاطر روسيا حال استخدامها الأسلحة النووية في الحرب في إخراج الدول المحايدة عن موقفها وبذلك تضع نفسها في موقف الدول المنبوذة وهو الأمر الذي لا يريده بوتين إطلاقاً من حربه على أوكرانيا. لقد صوّر الرئيس بوتين الحرب على أسس قومية بحتة تُعنى بإعادة مكانة روسيا العالمية. سيتعارض هذا تماماً مع تحوّل روسيا إلى دولة منبوذة لاستعمالها الأسلحة النووية في أوكرانيا.
ثانياً: لم تستنفد روسيا خياراتها من الأسلحة التقليدية في أوكرانيا، لذلك لا داعي حسب خبراء عسكريين أن يتوجّه الرئيس بوتين إلى الخيار النووي المحفوف بالمخاطر. الشاهد على ذلك كان ردّة فعل روسيا على تفجير جسر القرم حيث شنّت مجموعة من الهجمات الصاروخية التي أصابت غالبية المدن الرئيسية في أوكرانيا من ضمنها العاصمة كييف، الأمر الذي أخرج ما يقرب من 30٪ من البنية التحتية للبلاد عن الخدمة. كما لجأت روسيا إلى الطائرات المُسيّرة الانتحارية التي اشترتها من إيران لاستخدامها في استراتيجية الأرض المحروقة وهي ذات الاستراتيجية التي استخدمتها في سوريا وجورجيا سابقاً.
إذا كان الهدف من استخدام الأسلحة هو التدمير، فإنّ الأسلحة التقليدية كفيلة بالقيام بهذا الهدف خصوصاً مع امتلاك روسيا مخزونات من الصواريخ كبيرة جداً، هذا فضلاً عن 1500 طائرة مقاتلة من طرازات مختلفة. إنّ الدمار الذي ألحقته الولايات المتحدة في فيتنام على سبيل المثال كان حصيلة إسقاط ما يقرب من 7.5 مليون طنٍ من المتفجرات. لم تلجأ الولايات المتحدة إلى السلاح النووي لإحداث هذا الضرر. في الأخير استطاعت هذه الكمية من المتفجرات الإتيان بالفيتناميين الشماليين إلى طاولة المفاوضات بالرغم من أنها لم تجبرهم على الاستلام. ما زال خيار روسيا هو المفاوضات، ولذلك ربما يرى بوتين أنّ مزيداً من الدمار سوف يُقنع الأوكرانيين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات لإملاء شروطه ولا حاجة لاستخدام السلاح النووي لإجبارهم على الاستسلام. فما زالت عقيدة السلاح النووي هي للردع وليس للتدمير.
أخيراً، قد يؤدي استخدام روسيا للأسلحة النووية إلى تغيير الغرب موقفه من مجرّد تقديم الدعم إلى أوكرانيا إلى الدخول في المواجهة بشكل مباشر، الأمر الذي يجعل من الحرب جبهة مفتوحة على مصرعها.
بالنظر إلى الأداء العسكري للجيش الروسي حتى الآن، والعديد من الإخفاقات الاستراتيجية التي مُني بها مؤخراً واضطراره إلى الانسحاب من العديد من الأراضي التي احتلها سابقاً في أوكرانيا، فضلاً عن عدم قدرة سلاح الجو لديه على فرض سيطرته على الأجواء الأوكرانية، فإن الدخول في حرب شاملة مع الناتو لن يكون خياراً عقلانياً قد تلجأ إليه القيادة الروسية.
منذ البداية يراهن بوتين على إضعاف الجبهة الغربية. لقد أظهرت الجبهة الغربية حالة من التضامن تمثلت بمجموعة من العقوبات فرضتها بشكل جماعي على روسيا خصوصاً في مجالات الطاقة والمالية. مع ذلك، لم تخلُ الجبهة الغربية من بعض الأصوات التي شذّت عن المجموع مثل المجر التي رفضت سياسة العقوبات على الغاز الروسي.
مؤخراً بدأت الجبهة الداخلية في أوروبا التصدّع رويداً رويداً متمثلة بالمظاهرات التي بدأت تخرج في شوارع العديد من العواصم الأوروبية الكبرى مثل برلين وباريس منددة بسياسة القادة الأوروبيين التي جلبت لهم معدلات عالية من التضخم وأسفرت عن نقص في توريدات الطاقة الأمر الذي يهددهم بشتاء هو الأقسى ربما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ترقب موسكو هذه التصدعات وتحاول الاستثمار بها لإضعاف الجبهة الأوروبية من خلال ممارسة سياسات متشددة في مجال الطاقة. ولذلك لا تحتاج موسكو أن تستخدم السلاح النووي لكي تزيد من لُحمة التماسك الغربي أو حتى جعله أكثر راديكالية من خلال خسارة الرأي العام الغربي الذي ربما ينقلب باتجاه الضغط على القيادات السياسية لاتخاذ قرارات متشددة تجاه موسكو.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.