لماذا لا يستدعي انخفاض الليرة التركية قلقاً كبيراً؟
يرى خبراء أن الانخفاض في سعر صرف الليرة التركية لا تدعمه مؤشرات سلبية تتعلق بالاقتصاد التركي الأمر الذي يؤشر على أن هذا الانخفاض سيكون طارئاً وسرعان ما ستعود الليرة للصعود مجدداً.
الليرة التركية (Reuters Archive)

أحدث الانخفاض الأخير في قيمة الليرة التركية موجة من التخوفات لدى الجمهور التركي والعربي، لا سيما أن الانخفاض كان حاداً، وبدأ كالمعتاد من البورصات الآسيوية التي تبدأ عملها قبل البورصات العالمية ببضع ساعات، ليستيقظ الجميع على أخبار التهاوي، علاوة على أن الانخفاض جاء عقب انفراج محمود بالسياسة التركية تجاه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وكذلك تجاه كل من مصر والسعودية.

كما جاء الانخفاض كذلك عشية إعلان تركيا عن برنامجها الجديد للإصلاح الاقتصادي والذي تأمل من نتائجه توطيد موقعها كمركز إنتاجي عالمي، علاوة على تحسين مستوى معيشة مواطنيها من خلال خفض التضخم إلى خانة الآحاد، والاستعداد الدؤوب لشغل مركز من بين العشر دول الأكبر اقتصادياً بحلول 2023.

بالفعل بدلت الإدارة التركية ثلاث محافظين للبنك المركزي خلال عام ونصف فقط، وهو أمر يعكس اختلاف الرؤية بين صانعي السياسة الاقتصادية للبلاد، خاصة بشأن أسعار الفائدة التي يصر الرئيس أردوغان علي تخفيضها كأداة رئيسية لخفض معدل التضخم وتشجيع الاستثمار، وهو الأمر الذي يتفق مع النظرية الاقتصادية إلى حد كبير، ولكن تبقى ظروف التطبيق هي الحاكم الرئيس للنتائج المرجوة.

جرى تهويل متعمد لتغيير محافظي البنك المركزي وهو الأمر الذي لا يمكن أن يسبب هذا الانخفاض الحاد الحادث مؤخراً في قيمة الليرة، لا سيما أنه لا توجد أسباب اقتصادية مقنعة يمكن أن تُحدث هذا الانخفاض الحاد والسريع.

بدأت الليرة التركية العام الجديد بتفاؤل واضح من كل بيوت الخبرة العالمية التي تبارت في التبشير بتحسنها المتوقع في العام الجديد، وكان آخرها تعديل وكالة "فيتش" الدولية للتصنيف نظرتها المستقبلية للاقتصاد التركي من "سلبية" إلى "مستقرة".، وتأكيدها أن السياسة النقدية في تركيا تم تطبيقها بحزم، وأن البنك المركزي التركي بسط السياسة النقدية، فاستقرت الاحتياطيات الأجنبية، وارتفعت معنويات المستثمرين، ومهد الطريق أمام ارتفاع قيمة الليرة التركية بشكل كبير، حيث ارتفعت منذ بداية نوفمبر/تشرين الثاني" وحتى الأسبوع الماضي بمقدار 18%.

كما أن ارتفاع الليرة خلال الثلاثة أشهر السابقة كان مدفوعاً بمؤشرات اقتصادية مميزة للاقتصاد التركي ونجاحه في الخروج من أزمة كورونا بأقل خسائر ممكنة، وبرز بوصفه واحداً من بضعة اقتصادات فقط على مستوى العالم تجنبت الانكماش في ظل جائحة فيروس كورونا.

كما بلغت الصادرات 166 مليار دولار بانخفاض طفيف عن العام السابق على الرغم من الأزمة، كما تدفق 15 مليون سائح للبلاد، وكلها مؤشرات على قوة الاقتصاد وتنوعه ومرونته وقدرته على مواجهة الأزمات، وهو ما شجع المؤسسات الدولية على إعلان تفاؤلها بمزيد من التقدم في العام الجديد.

وفي العام الحالي تشير كل المؤشرات إلى تحسينات تفوق العام السابق، وقدرت مؤسسات دولية متعددة أن يبلغ معدل النمو في العام الحالي في حدود 4% في المتوسط، كما قدر عدد السائحين المتوقع بحوالي 25 مليون سائح وهو ما يخفف كثيراً حال تحقيقه عن القطاع الأكثر تضرراً بسبب كورونا، علاوة على مساندة العملة المحلية بما يوفره من تدفقات للنقد الأجنبي.

كل تلك البيانات والإشادات والتفاؤل لم يمر عليها شهر واحد، فهل هذا الانخفاض المفاجئ لسعر الليرة ينقض ذلك كله، أم يوجد مستجدات حقيقية تدعو إلى مثل هذا الانخفاض، وحقيقة فإن الوضع الداخلي التركي على المستوى الاقتصادي لم يمر بأزمات كبرى أو صغرى تدعو لذلك، بل ربما يستعد مجتمع الأعمال المحلي لانقشاع أزمة كورونا، وعودة الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها لا سيما بعد نشر اللقاح بين المواطنين بصورة معقولة خلال الفترة الماضية.

وعلى المستوى العالمي، ارتفعت معدلات الفائدة الأمريكية، وتوجد توقعات قوية بزيادة سعر الفائدة على الدولار في عام 2022 مع قفزة معدل التضخم إلى نحو 2% في العام الجاري، ونمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة تفوق 5.6% في 2021، وهو الأمر الذي دفع البنوك وصناديق الاستثمار الكبرى لتفضيل الاستثمار في الأصول وأدوات الدين الغربية والأمريكية على المخاطرة في الأسواق الناشئة.

وطبقاً لبيانات معهد التمويل الدولي فإن المستثمرين الأجانب يتجهون إلى تسييل محافظهم المالية المستثمرة في أدوات الدين في الأسواق الناشئة مثل السندات والأسهم، مما أدى إلى نزوح أرقام تقدر بمليارات الدولارات من أسواق البلدان الناشئة متجهة نحو الأسواق الغربية، وفي مقدمتها الاقتصاد الأمريكي، ووفقاً لتقديرات "دويتشه بنك" الألماني فهناك نحو مليار دولار خرجت من تركيا الأسبوع الماضي وفق هذا المسار.

وبناء على هذا المتغير الدولي فقد خفض بنك "مورغان ستانلي" الأمريكي نظرته المستقبلية لعملات وسندات الأسواق الناشئة، وتوقع تراجع عملات الأسواق الناشئة ككل بنسب تتراوح بين 4% و5%.، الأمر الذي ينفي أن يكون هذا المؤثر الدولي هو سبب تراجع الليرة، لأن الليرة تراجعت بنسب ضخمة تفوق كثيراً النسب المتوقعة، كما أن التأثيرات لم تطل بقية عملات الدول الناشئة حتى الآن.

اذا يمكن القول إنه لا توجد مستجدات دولية أو محلية تستدعي هذا الانخفاض الحاد في قيمة الليرة، ولا تزال المؤشرات المتفائلة تتوالى محلياً ودولياً، ولا يمكن أن يتسبب تغيير المحافظ في كل هذا التراجع، وكل ذلك يستدعي أن يكون هذه الانخفاض مؤقتاً اعتدناه مراراً خلال أعوام ما بعد الانقلاب الفاشل، وأغلب الظن أن هناك دولاً يزعجها وجود الاقتصاد التركي بين العشرة الكبار في العالم.

يحتاج الاقتصاد التركي الآن إلى استقرار السياسة النقدية والقائمين عليها، والتركيز على تحسين الأحوال المعيشية للمواطن التركي الذي هو المتضرر الأكبر من انخفاض الليرة، بالإضافة إلى تسريع وتيرة اللقاحات والعودة إلى الحياة الطبيعية، والمزيد من الثقة بمتانته التي ثبتت يقيناً في أزمة كورونا والعديد من الأزمات السابقة، والتي تعطي رسالة واضحة "لا داعي للذعر من هذا الانخفاض الذي تشير كل الدلائل إلى كونه مؤقتاً ولن يتجاوز الأجل القصير."

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي