قد يكون للسياسات السلبية للولايات المتحدة والغرب تجاه الصومال نتائج غير مسبوقة على مستوى العالم. يحتاج قادة العالم إلى التحرك بسرعة قبل أن تبدأ الوفيات في الارتفاع بسرعة.
كان الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب هو الذي أرسل جنوداً أمريكيين إلى الصومال، واتخذ القرار في ديسمبر/كانون الأول 1992 في أيامه الأخيرة في المكتب البيضاوي. لكن بيل كلينتون هو من سحبهم لاحقاً، ويرجع ذلك إلى حدّ كبير إلى ردّ الفعل العنيف للرأي العامّ الأمريكي بعد نشر صورة مؤلمة لأمعاء جثة جندي أمريكي تُجَرّ في شوارع مقديشو.
في وقت لاحق اشتهر قول أسامة بن لادن إن الولايات المتحدة لم تكن قادرة على تَحمُّل الانتكاسات: "جُرَّ أمريكي واحد في شوارع مقديشو (و) غادرت؛ أصبح مدى عجزك وضعفك واضحاً جداً". بعد سنوات أخبر جورج دبليو بوش مساعديه أنه يعتقد أن لحظة بلاك هوك داون -التي اشتهرت من خلال فيلم هوليوود الرائد عام 2001 الذي يحمل نفس الاسم- ألهمت بالفعل الإرهابيين لمهاجمة البرجين التوأمين وإسقاطهما.
بالعودة إلى عام 1993، كانت إدارة كلينتون تشنّ حملة سخيفة لمطاردة الجنرال فرح عيديد، الذي اعتُبر بشكل أساسي مصدراً لجميع مشكلات الصومال. حتى ذلك الحين كان التركيز على القوات الأمريكية التابعة للأمم المتحدة في الصومال يدور حول السماح للمساعدات الغذائية الحيوية بالوصول إلى أنحاء البلاد كافة، إذ غالباً ما كانت تُحظَر القوافل وتُسرَق على يد مسلحين يعملون لصالح أمراء الحرب. بالنسبة إلى البعض، كان التدخل الأمريكي في الصومال، على عكس الرأي العامّ، ناجحاً إلى حدّ كبير، ويعتقد البعض أنه أنقذ حياة ما يصل إلى مليون شخص، فيما يعتقد البعض الآخر عكس ذلك.
لكن إخفاق عملية "بلاك هوك داون"، الذي أودى بحياة 18 أمريكياً وتبلور من خلال لقطة صريحة لمصور كندي لأنصار عيديد وهم يهتفون في أثناء تعذيب الرقيب. لقد ترك جرّ جسد ويليام ديفيد كليفلاند في شوارع مقديشو العالم مخدراً.
تَغيَّر كل شيء حتى حماس الأمم المتحدة للتدخل في الحروب الأهلية والإبادة الجماعية في إفريقيا مثل رواندا. أظهرت أمريكا للعالم أنها على الرغم من امتلاكها القدرات والمعدات العسكرية، لم تكن لديها الجرأة لفعل شيء، والحرب المستمرَّة في أوكرانيا مثال على ذلك. إن قائمة الإخفاقات اللاحقة للأمم المتحدة في القارة مُخزِية لأنها واسعة النطاق. وأصبحت قائمة التدخلات الأمريكية الفاشلة عبارة عن ميمات للسخرية على الإنترنت، وهو ما لا بد أنه يحرج معظم الأمريكيين.
لم يفهم كلينتون حقيقة ما كان يحدث في الصومال، وكيف سيؤدي سقوط نظام سياد بري إلى دفع القرن الإفريقي إلى حالة من الفوضى. نجح بري، الذي فر إلى كينيا في البداية على الرغم من كونه أحد أقسى الطغاة في إفريقيا، في منع العشائر من التقاتل في أثناء حرب الولايات المتحدة ضد السوفييت. كان هذا الأخير يهيّئه، في بعض الأحيان، ليكون زعيماً إفريقياً عظيماً بدلاً من الوحش الذي أصبح عليه بعد الفظائع التي ارتكبها في نهاية حكمه.
انسحب الأمريكيون أخيراً في عام 1995، تاركين الصومال دولة فاشلة. ثم وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، التي أنتجت مجموعة جديدة من متطرفي القاعدة -المراهقين- مع آيديولوجيتهم الراديكالية تجاه الحكم. هذه المجموعة اليوم هي التي تكرّر التاريخ وتنتج سيناريو الجحيم على الأرض لكي يفكر فيه جو بايدن، إذ يمنع هؤلاء الشباب شحنات المساعدات الغذائية من الوصول إلى داخل البلاد.
التاريخ يعيد نفسه حرفياً، وسنعود إلى عام 1992 عندما كنت، مراسلاً شابّاً، من أوائل الذين دخلوا مقديشو العاصمة، حيث دُمّر أي شيء بناه نظام بري بألف طلقة من طراز AK-47، حتى مكتب البريد.
يواجه الصومال اليوم مجاعة أخرى وحرباً أهلية أخرى قد تكون أسوأ من تلك التي شهدتها والتي تلعب فيها السخرية دوراً قاسياً. عيديد وعشائره -كمعارضة- استُبدلَت بهم حركة الشباب، التي وُلدت من لحظة صعود تنظيم القاعدة، والتي يعتقد جورج دبليو بوش وآخرون أنها تسارعت بفعل عملية بلاك هوك داون الأمريكية في الصومال.
أرسل بايدن مؤخراً 500 جندي أمريكي إلى الصومال كان ترمب سحبهم سابقاً، ووعد أيضاً بتقديم 500 مليون دولار مساعدات غذائية. في الواقع تقدّر الأمم المتحدة أن الصومال بحاجة إلى ما يقرب من 1.5 مليار دولار، لكن لا مؤشرات واضحة على أن المانحين الغربيين سوف يسعون لتأمين هذه المبالغ.
الملايين الـ500 من الولايات المتحدة ضمادة على جرح مفتوح من عيار 50، وإذا لم يتحرك الغرب بسرعة، فإن الصومال سيندلع مرة أخرى كبركان سيغطّينا جميعاً بالرماد السامّ.
تمتلك البلاد كل المقومات اللازمة لحرب أهلية تنتشر سريعاً في أنحاء المنطقة بأسرها. الآثار المترتبة على ذلك هي أن المجاعة ستمنح حركة الشباب مزيداً من القوة، إذ سيعملون للسيطرة على البنية التحتية بأكملها في البلاد، التي لا تزال رسمياً في أيدي الحكومة.
قد تنفصل العشائر الأخرى وتقاتل أيضاً من أجل الأرض أو الطعام أو لتصفية حسابات قديمة. ستحدد سياسة الطعام كثيراً. مَن يأكل ومَن يجوع؟ في الوقت الحالي نزح مليون شخص في واحدة من أسوأ فترات الجفاف منذ عقود، مما ترك 5 ملايين إنسان عرضة لخطر المجاعة.
ما يحتاج إليه الصومال الآن هو مبادرة، مبادرة جريئة رأيناها مع قادة الاتحاد الأوروبي، الذين تَصرَّفوا بسرعة للردّ على بوتين في أوكرانيا. الصومال بحاجة إلى هذه الحيوية من زعماء العالم الذين يحتاجون إلى التحرك بسرعة قبل أن تبدأ الوفيات الارتفاع بسرعة. يتفهّم بعض دول المنطقة تداعيات فشل الصومال مرة أخرى، مثل الإمارات التي أرسلت مساعدات غذائية مؤخراً، وتركيا التي أرسلت نحو مليار دولار من المساعدات الإنسانية والتنموية في السنوات العشر الماضية.
لكنّ كثيراً يجب أن يأتي من أغنى البلدان في المنطقة. وتحتاج الأمم المتحدة إلى حشد الدعم والاهتمام من بايدن وزعماء الاتحاد الأوروبي للتحرك بسرعة لتجنب المجاعة، فالتداعيات واضحة.
جدير بالذكر أنه منذ مايو/أيار من هذا العام، عيّن الصومال حسن محمود رئيساً جديداً.
يُعرف محمود سابقاً بقدرته على جلب العشائر المقاتلة إلى طاولة المفاوضات وتوحيد مقديشو في عام 1997، إذ أُزيلَ "الخط الأخضر" الذي يقسم شمالها وجنوبها على نطاق واسع، واضعاً حدّاً لسنوات من سيطرة عيديد في الجنوب والرئيس الذي عينته الأمم المتحدة علي مهدي في الشمال، على العاصمة.
بعد ذلك بوقت طويل، ظهر كلاعب بارز سيؤسّس حركته السياسية الخاصة قبل أن يفوز في انتخابات ساحقة في صناديق الاقتراع هذا العام. يحتاج محمود الآن إلى الوصول إلى التسلسل الهرمي للأمم المتحدة والأوروبيين للحصول على المساعدة. وينبغي أن نساعد الصومال وأرض الصومال المجاورة لأن الوضع هناك الآن لا يمكن مقارنته بأوائل التسعينيات. إن التغير المناخي يوجه أشد ضربة همجية وصاخبة لسكان تلك المناطق، الذين بدورهم لم يلعبوا أي دور على الإطلاق في حدوثه.
ولكن بالنظر إلى اقتصادات أوروبا المنهارة بسبب الحرب في أوكرانيا، فهل سيستجيبون، أم سيكون الصومال أحدث ضحية لنقاط الضعف الغربية وهوس بوتين؟
وهل يمكن للرئيس بايدن أن "يتحمل الخسائر" ولو كان لديه الشجاعة لإصلاح ما تراجع عنه عام 1993؟ ما نحتاج إليه هو أفعال لا أقوال. في الواقع، يقول مثل صومالي: "اليد الحلوة خير من الفم الحلو".
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.