تجددت المعركة الرقمية بين الطرفين بعد أن شرعت الشرطة الإسرائيلية في الاعتداء على حقوق المقدسيين والفلسطينيين في مدينة القدس، تزامناً مع بداية شهر رمضان في منتصف أبريل/نيسان المنصرم، حتى الوقت الراهن.
حملات فلسطينية
مثلَت الشبكات الإعلامية المقدسية المحلية مثل "ميدان القدس"، و"القسطل"، رأس الحربة في هذه المعركة الرقمية. كان ذلك بخوض هذه الشبكات حملات إعلامية مباشرة ومتواصلة عبر الإعلام الرقمي، لفضح الاعتداءات الإسرائيلية في القدس، فنقلت الأحداث أولاً بأول، حتى أصبحت المواد الإعلامية التي تنشرها مرجعاً لكثير من القنوات التليفزيونية العربية والدولية. كما شكلَت الصفحات الرقمية الخاصة بالعشرات من النشطاء المقدسيين وحتى المواطنين العاديين خير سفير لقضية القدس، بعد أن وثقت صفحاتهم كل ما يجري على الأرض بالصوت والصورة، مستخدمين هواتفهم وكاميراتهم الخاصة.
ودعماً لحي "الشيخ جرّاح" نشر الفلسطينيون العديد من "الهاشتاغات" وبلغات متعددة، تدعو إلى التضامن مع الحي ودعم سكانه المهددين بالطرد والتطهير العرقي.
كان وسم #أنقذوا_حي_الشيخ_جراح و #لن_نرحل الأكثر انتشاراً على مواقع التواصل المختلفة. كما تصدرت وجوه العديد من النشطاء مواقع التواصل، مثل الناشطة "منى الكرد"، وهي مقدسية، وواحدة من سكان الحي المهددين بالترحيل. أصبحت الكرد خلال الأحداث أيقونة للحراك في الشيخ جرّاح، بعد أن تحولت صفحتها الرقمية عبر "إنستغرام" إلى قناة إعلامية واسعة الانتشار، تنشر عبرها التطورات في الحي.
أسهمت هذه الجهود الرقمية في حشد الدعم للقدس في العديد من الدول العربية، حتى تزعم اسم المدينة منصات التواصل الاجتماعي، وتحول وسم #القدس_تنتفض إلى "ترند" في العديد من تلك الدول.
أسهمت هذه الجهود الرقمية في حشد الدعم للقدس في العديد من الدول العربية والإسلامية والغربية، حتى تصدَر اسم المدينة وحي الشيخ جرّاح، منصات التواصل الاجتماعي. على سبيل المثال أصبح هاشتاغ "القدس تنتفض" ترنداً في السعودية (21 ألف تغريدة عبر تويتر)، ومصر والأردن والمغرب والكويت ولبنان. وفي تركيا تصدر هاشتاغ "المسجد الأقصى" تويتر (144 ألف تغريدة).
حملات مضادة
في المقابل، نشطت الجماعات اليهودية المتطرفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي لحشد أتباعها ودعوتهم لاقتحام ساحات المسجد الأقصى وباب العامود بالسلاح.
كما كشف الإعلام العبري عن تدشين عدد من الجماعات اليهودية المتطرفة مجموعة عبر "واتساب" تحمل شعار "ليحترق العرب". تحرض هذه المجموعة على قتل العرب من خلال الرسائل التي تدعو فيها أتباعها إلى النزول إلى الشوارع لـ"تكسير وجوه العرب ودفنهم أحياء"، والقول: "إن عرباً سُيحرقون اليوم، الكوكتيل مولوتوف في مستوعب السيارة، سيموت عربيٌّ اليوم".
وبالفعل، خرج العشرات من هؤلاء المتطرفين إلى حي الشيخ جرّاح بالسلاح، وأطلقوا النيران بشكل عشوائي على المعتصمين أمام البيوت المهددة بالتهجير، لكن معجزة ما حالت دون وقوع ضحايا من الفلسطينيين، على الأقل، حتى تاريخ كتابة هذه السطور.
كما نشطت الجماعات المتطرفة عبر التطبيقات الرقمية الأخرى في بث الرسائل العنصرية ذاتها. يعلق الصحفي اليهودي الفرنسي، دومينيك فيدال، على تلك الرسائل التحريضية بالقول: "أشعر بالعار"، ثم يتساءل ماذا لو رفع الفلسطينيون شعار "الموت لليهود"؟
إجابة عن تساؤل فيدال، كانت "إسرائيل" ستستغل الشعار عالمياً لإثارة الرأي العام ضد الفلسطينيين، مع المسارعة باتهامهم بالإرهاب ومعاداة السامية.
أما رقمياً فإن مواقع التواصل الاجتماعي ستُسارع لإزالة الشعار بحجة أنه يحمل إرهاباً فكرياً وتحريضاً عنصرياً. مع ذلك، ورغم أن معركة الفلسطينيين الرقمية اقتصرت على نقل حقيقة الأحداث فقط، فإن شركات التكنولوجيا لاحقت المحتوى الرقمي الفلسطيني ووقفت له بمرصاد الحجب والتقييد.
حجب بالجملة
حجبت منصات التواصل المختلفة صفحات العشرات من النشطاء والصحفيين، بعد أن نجحوا في نقل الأحداث لحظة وقوعها، فكان بإمكان العالم بأسره مشاهدة جنود الاحتلال وهم يعتدون على المدنيين الفلسطينيين بالقدس، ويرشون وجوهم بغاز الفلفل، ويعتدون على الفتيات والشبان والأطفال بالضرب المبرح في حي الشيخ جرّاح وغيره من أحياء القدس.
اللافت للنظر أن حظر الصفحات المقدسية أو تقييدها لم يكن ذا علاقة بالسياسات التحريرية للمنصات الرقمية كما كانت الحجة سابقاً عند محاصرة المحتوى الرقمي الفلسطيني، وإنما بسبب فاعلية هذه الصفحات، وتأثيرها على الرأي العام العربي والدولي.
كما حظرت المنصات بعض "الهاشتاغات" التي تحمل اسم الأقصى وحي الشيخ جرّاح، وأزالتها من مقاطع الفيديو التي تُظهر وحشية الاحتلال ومستوطنيه خلال المواجهات مع المقدسيين، بحجة التحريض على الكراهية.
لكن هل تعاملت هذه المنصات بالمثل مع خطاب الكراهية والتحريض الوارد في منشورات الجماعات المتطرفة؟ بالطبع لا. لم يحصل أن حظرت تلك المنصات أي حساب شخصي للمتطرفين، ولم تُزل أي منشور دعوا فيه إلى قتل الفلسطينيين صراحة.
لذا فإن ما يحدث عبر الفضاء الرقمي يؤكد لنا مجدداً تواطؤ شركات التكنولوجيا الكبرى مع الاحتلال الإسرائيلي، وممارسة سياسة التمييز العنصري ضد المحتوى الفلسطيني، لتغييب الرواية الحقيقية ومناصرة الرواية الإسرائيلية المضادة.
مشاركة المؤثرين
كان لافتاً في هذه الأحداث دخول عشرات "الإنفلونسرز" (المؤثرين) من العرب المعركة الرقمية تضامناً مع قضية القدس. تمثّل دور المؤثرين بمشاركة التطورات في المدينة المحتلة مع الآلاف من متابعيهم عبر النقل المباشر للأحداث عن بُعد.
تمثلت المهمة بفتح النشطاء المقدسيين البث المباشر عبر هواتفهم ومشاركته مع ثلاثة مؤثرين في نافذة واحدة، وهو ما أتاح الفرصة للآلاف من متابعي هؤلاء المؤثرين لمشاهدة الأحداث على مدى ساعات من البث، والتعليق عليها. من بين المؤثرين المشاركين في هذه الحملة الإلكترونية عبر "إنستغرام" المعلق الرياضي حفيظ دراجي، والإعلامية في قناة الجزيرة علا الفارس، والناشطة آلاء حمدان، والكاتب أيمن العتوم وغيرهم.
كما جذبت حملات الدعم الرقمية للقدس عدداً كبيراً من الفنانين والممثلين والرياضيين العرب، الذين شاركوا ببث منشورات و"هاشتاغات" حول القدس وحي الشيخ جرّاح على صفحاتهم الخاصة، مثل الفنان المصري محمد هنيدي، والسوري باسم ياخور، والتونسية هند صبري، والرياضي محمد أبو تريكة وغيرهم. ليس هذا فحسب، بل امتدت المناصرة إلى العالم الغربي، حيث شارك العشرات من الفنانين والإعلاميين والنشطاء الأجانب في نشر رسائل تضامن مع القدس. أبرزهم المغني البريطاني الشهير "روجر ووترز"، والذي هاجم في رسالة مصورة "إسرائيل" والإدارة الأمريكية بقيادة جو بايدن لدعم الاحتلال، معبراً عن دعمه للقدس وحي الشيخ جرّاح.
كما جذبت حملات الدعم الرقمية للأقصى وحي الشيخ جرّاح عدداً من الفنانين العرب، الذين شاركوا ببث منشورات وصور على صفحاتهم الخاصة، تعبر عن مناصرتهم للقدس.
تدل مثل هذه المشاركات على نجاح الحملات الفلسطينية الرقمية في نقل الحقيقة عبر الفضاء الرقمي، وقد تخطى هذا النجاح حدود العالم العربي ليصل إلى دول إسلامية مثل إندونيسيا، وتركيا التي قادت حملة تغريدات باللغة التركية تضامناً مع القدس وأهلها.
وعلى الرغم من هذا النجاح، فإن المنصات الرقمية عادت من جديد لتكرر سيناريو تكميم المحتوى الفلسطيني، في وقت تجتهد فيه "إسرائيل" لمحاصرة المقدسيين وتكميم أفواههم على أرض الواقع.
إن استمرار تعامل شبكات التواصل الاجتماعي مع الفلسطينيين من منظور عنصري، يحتم على الفلسطينيين البحث عن خيارات قانونية لوقف هذه السياسة، والضغط على شركات التكنولوجيا للتعامل معهم وفق مبدأ حرية الرأي والتعبير التي تدعَي هذه الشركات الالتزام بها.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.