أحدثت القذائف الأولى التي أُطلِقت في الميدان الأوكراني دويّاً في أروقة أوروبا، فأنهت استرخاء دام عقوداً ثلاثة بعد أفول الحرب الباردة. عاد الاستقطاب الدولي فتحصّنت الأسرة الأوروبية بالخندق الأمريكي مجدداً، وكفّت عن مواءماتها الحذرة، وتلاحقت التغيّرات على أوروبا خلال سنة من الحرب الضارية على نحو غيّر ملامح القارّة.
أوجز المستشار الألماني أولاف شولتز، بعد أيام ثلاثة من الغزو، القول بأنّ يوم 24 فبراير/ شباط 2022 يمثِّل "نقطة تحوّل" لأوروبا، أو "تسايتن فينده" بالألمانية، وأنّ "العالم بعدها لن يكون ذاته كما كان من قبل".
لا يبدو يسيراً، حقاً، ما غيّرته الحرب الطاحنة في أوروبا على مدار سنة وزيادة، ابتداءً من انهيار تصوّرات وتوقّعات معيّنة.
راهنت أوروبا القارية طويلاً على إدماج روسيا في شبكة مصالح متبادلة، وبحثت عن شراكات معها، رغم إقرارها بتحدِّيات استراتيجية قائمة من الجهة الشرقية.
ثمّ أدرك الأوروبيون في لحظة الحقيقة سقوط الرهان واكتشفوا اعتماديّتهم المفرطة على موارد الطاقة الروسية القريبة والرخيصة، فأدركوا متأخِّرين أنّ أمنهم الطاقوي مهدّد، وطرقوا أبواباً عربية مرشّحة لتوفير البديل.
انقلبت أوروبا على وجهة قضت بالتعامل مع روسيا بمنطق التحدِّي الاستراتيجي والشراكة الاقتصادية في آن؛ فعُدّت موسكو بين عشية وضحاها تهديداً ماحقاً، وسارع الأوروبيون إلى معاقبتها وعزلها وتشديد الضغوط عليها عبر حِزَم العقوبات المغلّظة، وحشدوا قدرات عسكرية ضدّها عبر الرقعة الأوكرانية من خلال "الناتو". تجاوزت واشنطن ممانعة القارّة فنظمت حبّات العقد الأوروبي وأمسكت به كما ترغب.
فقدت الكتلة الأوروبية عبر هذا المنعطف ما تبقى لها من حظوظ الصعود المستقلّ في عالم متعدد الأقطاب؛ بخلاف تقديرات شاعت في خواتيم القرن العشرين.
تبقى خبرة الحرب هي المتغيِّر الأكبر، فمعها انقشعت أوهام الذين حسبوا أنّ زمن الحروب فارق قارّتهم إلى غير رجعة، وبدت مدن أوكرانيا استعادة ملوّنة لحواضر الأطلال في الحرب العالمية الثانية.
عاد القصف والقتل والتدمير والنزوح إلى القارّة عبر جناحها الشرقي، وامتدّت بلا هوادة إلى سنة ثانية قد لا تكون الأخيرة، على نحو فاق التقديرات المبكِّرة.
رأى بعضهم، بسذاجة، أنّ الحرب أخطأت عنوانها؛ فهنا ليس العراق أو سورية أو أفغانستان، وانفلتت ألسنة معلِّقين أوروبيين في الأيام الأولى بأنّ ما يشاهدونه لا ينبغي أن يكون هنا.
إنّ أوروبا انعطفت بين عشية وضحاها من خطابات السلام والوئام والدبلوماسية وضبط النفس؛ إلى تمجيد مفاجئ للكفاح المسلّح والإمداد العسكري
تغيّرت أوروبا، أيضاً، في قدرتها على استيعاب تحوّلات صادمة، وكان لخبرتها مع موسم كورونا المديد مفعولها في تهيئة الحكومات والشعوب للحرب وتوابعها، رغم تراكم أعباء اقتصادية واجتماعية كما يتجلّى في التضخّم القياسي وأزمة سلاسل التوريد.
تتلاطم الأمواج لكنّ المركب الأوروبي يبحر فوقها باقتدار حتى الآن. تكيّفت شعوب أوروبا مع سنوات الأزمات التي تقضم من رفاهها، حتى أنها لم تفزع بعد من التلويح المتكرِّر بالرعب النووي.
ثمّ إنّ أوروبا انعطفت بين عشية وضحاها من خطابات السلام والوئام والدبلوماسية وضبط النفس؛ إلى تمجيد مفاجئ للكفاح المسلّح والإمداد العسكري والتغنِّي ببطولات ميدان له أيقوناته، ونبذ المُنادين بالتفاوض والبحث عن حلّ سلمي أو بوضع حدّ لما يجري.
بدأ الأمر في تغطيات أوروبية وغربية بالاحتفاء بالمقاومة الأوكرانية وتعظيم الهالة الرمزية لقنابل المولوتوف الحارقة التي جهّزها الأوكرانيون بانتظار الغزاة.
حشدت الحرب مقاتلين أجانب مع القوات الأوكرانية، بعد أن كان هذا منبوذاً للغاية في أوروبا، ثمّ قفزت مؤشِّرات الإمداد الأوروبي بالأسلحة والذخائر الثقيلة لفائدة المجهود الحربي الأوكراني. صار "إحراز النصر" من لوازم خطابات أوروبية تتحفّز لاستنزاف روسيا وهزيمتها.
أسقطت الحرب "تابوات" عدّة، فاستدرجت الأوروبيين، مثلاً، إلى التمجيد الصريح أو الرمزي للعسكرة التي نبذوها من قبل، فتفشّت دعاية القتال الأوكرانية في منصّات إعلامية وشبكية وثقافية عبر القارّة.
تجلّى هذا التحوّل في الاحتفاء الجارف بمن يُعدّ بطل المرحلة، الذي يظهر على الملأ يومياً في هيئة عسكرية. يختطف فلودومير زيلينسكي أضواء أوروبا والغرب ويحظى بتصفيق مديد ويقف الجالسون في مقاعدهم إجلالاً له عندما يتحدّث.
من كان يتوقّع أن يلعب زيلينسكي دور غيفارا في المسرح الأوروبي والغربي الجديد، مفارقاً انطباعات لازمت صعوده إلى الرئاسة من بوابة الفكاهة الجماهيرية؟!
خرج زيلينسكي إلى العالم في "نيولوك" مخصّص لزمن الحرب الشرسة، موحياً بالتوثّب القتالي، مع لحية خفيفة تلائم الخنادق، كاشفاً عن عضلات ذراعيه في المقاطع والإطلالات الرسمية من خلال قميص عسكري يحمل شارة قومية؛ هي رمز الدولة.
يُملي الرئيس الأوكراني مطالباته على قادة أوروبيين لا يجرؤون على معارضة حظوته الجارفة، وطغت رمزيّته حتى على منصّات فنية، حتى أنه افتتح مهرجان برلين السينمائي "برلينالي" في نسخته لسنة 2023.
تكشف واقعة "برلينالي" عن تحوّلات أحدثتها الحرب في ألمانيا تحديداً، مركز الثقل الأوروبي، بعد أن جمعتها أواصر وثقى مع روسيا حتى اندلاع "العملية العسكرية الخاصة" بتعبير الكرملين.
انزلقت برلين إلى الخندق الأمريكي خطوة بخطوة، فخسرت رهانها على خطوط "نورد ستريم" التي تمسّكت بها لتدعيم شراكة الطاقة مع روسيا، رغم اعتراضات الإدارات الأمريكية على المشروع الاستراتيجي.
تخلّت برلين فجأة عن هذا كلِّه، وتنازلت عن تبادلات ضخمة مع الروس، واضطرّتها الضغوط إلى تجاوز تحفّظاتها التقليدية والاستعداد لتزويد أوكرانيا بأسلحة ثقيلة وحتى بدبابات "ليوبارد".
صار أحزاب السلام التقليدية في ألمانيا، مثل الخضر، من دعاة التزويد بالسلاح الثقيل بلا تردُّد. أمّا التحوّل الأكبر الذي أملته الحرب على النهج الألماني؛ فتمثّل في قرار التحوّل إلى قوّة عسكرية ضاربة من خلال زيادة ميزانية الجيش إلى مائة مليار يورو. يعني القرار المُتّخذ تحت وطأة الإحساس بالتهديد أنّ برلين تسعى إلى مفارقة شرنقة احتوتها طويلاً.
ليست ألمانيا وحدها من تغيّرت، فسباق التسلّح يتسارع في عموم أوروبا، حيث تتفقّد بعض الدول قوّات خاملة وأسلحة صدئة وذخائر متقادمة.
طرأت زيادات قياسية في ميزانيات الجيوش، وينهمك القوم في الإنتاج الحربي والتزوّد بالسلاح. وفي لحظة خاطفة اندفعت جارتان إسكندنافيّتان صوب "الناتو"، بعد أن رقدتا طويلاً على الحياد، كي تصير فنلندا والسويد رقعة كبرى للحشد العسكري الغربي المتاخم لروسيا.
سيحظى الأمريكيون بحضورهم العسكري المكثّف في الشمال الأوروبي أيضاً، علاوة على شرق القارّة ووسطها التي حُشدت فيها قوات أمريكية وغربية من حول أوكرانيا.
يبدو الاتحاد الأوروبي من موقعه في الخندق الأمريكي أكثر تماسكاً ويتصرّف ككتلة استراتيجية تقرِّر بشكل سريع وتسنّ العقوبات وتتواءم مع "الناتو".
أزاحت الحرب بولندا إلى مركز المشهد الأوروبي بعد أن كانت على أطرافه، وحظيت وارسو من موقعها الجيوستراتيجي الفريد بتقدير كبير من أوروبا الموحدة منذ بدء المواجهة العسكرية رغم أزمتها مع الاتحاد من قبل.
اكتشف الاتحاد أهمية جنوب شرق أوروبا مجدداً فسارع إلى محاولة إدماج ما تبقى من الدول خارجه في مسارات العضوية المقبلة فيه، لتحسين مكانته الجيوستراتيجية وملء فراغات قد تتسلّل روسيا عبرها.
استوعبت أوروبا ملايين اللاجئين الأوكرانيين دون ضجيج، فاتّضح أنّ مشكلتها هي مع ألوان معيّنة من اللجوء. اتفق الاتحاد الأوروبي برشاقة خاطفة على احتضان تدفّقات النزوح الأوكراني وتيسير الإقامة والعمل والمساعدات لها، بينما يتشدّد مع طالبي الهجرة واللجوء "التقليديين" على نحو ينتهي بغرق بؤساء الأرض قرب سواحله.
على المستوى المالي يتعيّن على أوروبا أن تدفع أكثر فأكثر لآلة الحرب كلما طال أمدها، ما يعني أنّ استمرارها سنوات لاحقة يزيد الأعباء؛ علاوة على استحقاق التعهّد الأوروبي بإعادة إعمار بلد كبير مدمّر؛ ثم استنهاضه على منوال خطّة مارشال الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية.
تتلاحق التغيّرات التي أحدثتها الحرب، وتتضاءل القدرة على استشراف مآلات "نقطة التحوُّل" وعواقبها، واحتمالات خروج المواجهة عن السيطرة، رغم أنّ قواعد الحرب وخطوطها الحمر ما زالت قائمة.
من عظات ما جرى أنّ التوقّعات المسبقة هي أول ما قد يسقط في ميدان المعركة، وأنّ الوقائع المقبلة قد تتجاوز التقديرات وتدفع بمفاجآت يصعب تخمينها.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.