كانت فرنسا شريكاً مؤسساً مع ألمانيا للاتحاد الأوروبي، لكنها الآن خسرت رونق موقعها القديم ولمعانه داخل التكتل الأوروبي، ولم يعد الاتحاد الأوروبي موضوعاً يتمتع بالأولوية على أجندة الساسة الفرنسيين.
فعدم فعالية فرنسا بهذه الصورة داخل اتحاد هي شريك مؤسس له، أمر يُقابَل بالمرارة من طرف عديد من الساسة الفرنسيين. ولهذا السبب ينمو تصور سلبي في فرنسا تجاه ألمانيا والدول الأخرى الواقعة في دائرة نفوذها.
وعلى هذا النحو، يبقى الاتحاد الأوروبي بوضعه الحالي بعيداً عن تقديم حلول لمشاكل فرنسا الهيكلية، مثلما كان بالنسبة إلى بريطانيا. وعليه، اتجه الرأي العام الفرنسي إلى مسارات مختلفة لتجاوز الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يعاني منها. كذلك لا ترى فرنسا الاتحاد الأوروبي أداةً أو وسيلةَ توسع استراتيجية، على عكس موقف الجارة ألمانيا. بل على النقيض تمثل مؤسسات الاتحاد الأوروبي وقيمه الليبرالية عائقاً وقيداً أمام طموحات القادة الفرنسيين.
تعتقد فرنسا أنه يمكنها تعزيز موقعها داخل الاتحاد الأوروبي من خلال اللجوء إلى القوة والدبلوماسية، ولقد كانت بريطانيا تتفوق على فرنسا دبلوماسياً حتى وقت قريب، وكانت تحظى بثقل ملحوظ داخل الاتحاد على صعيدي القوة العسكرية والدبلوماسية الدولية.
وكذلك الوضع في حلف شمال الأطلسي "ناتو"، حيث تتمتع لندن بموقع مركزي حتى اليوم، ولها تأثير مهم على صناعة القرار بالحلف. بيد أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عزز من طموحات الفرنسيين في مجالي الدفاع والسياسة الخارجية، وضاع عنصر الاتزان والاستقرار الذي كان يسيطر على فرنسا.
وحتى لو ظهرت فرنسا كأنها تعمل على تقييد تركيا في شرقي المتوسط والشرق الأوسط، لكن يلاحظ أن هذه المساعي تخدم مجموعة أخرى من الأهداف. ففرنسا تحاول استغلال تفوقها العسكري النسبي داخل الاتحاد، لجعل الأجندة العسكرية بنداً أولوياً داخل التكتل الأوروبي من جديد.
وفي الوقت نفسه تمارس الضغط على ألمانيا عبر إظهارها على أنها عاجزة عن الدفاع عن الدول الأعضاء بالاتحاد. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرأي العام في اليونان كان قد وصل إلى وضع متوتر إلى حد كبير تجاه ألمانيا في أعقاب أزمة 2008 الاقتصادية.
وعلى هذا النحو تستغل فرنسا ذلك الوضع لتعزيز التوتر بين اليونان وألمانيا، لإجبار الأخيرة على التوجه أكثر نحو الأجندة التي تفرضها. غير أن المستشارة الألمانية على دراية إلى حد كبير بهذه اللعبة، وتتعامل بحذر مع مساعِي فرنسا واليونان لتصعيد التوتر.
من المهم هنا أيضاً الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي لم يعد يواجه تهديداً مشتركاً منذ انتهاء الحرب الباردة، وحالياً يُنظر إلى الغموض الاقتصادي والسياسي الدولي في مرحلة ما بعد فيروس كوفيد 19 كأجندة مشتركة للاتحاد. لكن بعيداً عن ذلك لم يطور الاتحاد رؤية جيوسياسية مشتركة وشاملة، حتى لو صدرت عن دوله الأعضاء تحركات جماعية ضد التهديدات الإرهابية في السنوات الأخيرة.
لعبة ماكرون الخطيرة
اختارت فرنسا من أجل تعزيز اقتصادها التركيز على مستعمراتها القديمة، وشرقي المتوسط، ومساحات انفتاح أخرى، بدل النظر إلى بروكسل وبرلين.
ويحمل هذا التوجه في طياته مخاطر كبيرة بالنسبة إلى باريس، فهي تخاطر بإمكانية نشوب صراع ساخن غير مباشر مع تركيا عبر تحريض اليونان وقبرص الرومية ضد أنقرة.
ولا شك أن اضطرار فرنسا إلى التراجع على خلفية العمليات الناجحة التي نفذتها تركيا في الشمال السوري وليبيا، قد أضر بصورة ماكرون. وعلى الأرجح ستضطر مجدداً إلى التراجع في حال اندلاع صدام عسكري ضد تركيا في شرقي المتوسط، وذلك لأن أنقرة تنظر إلى الأمر كقضية وجودية. وبالرغم من ذلك يخاطر ماكرون بأمن الناتو ويسعى لفتح جبهات جديدة ضد تركيا. ولا شك أن أي صدام عسكري مع تركيا في شرقي المتوسط لن يعود بالنفع على مصالح فرنسا.
وقد تظهر فرنسا كأنها حققت مكاسب قصيرة المدى، لكنها ستكون الخاسر الاستراتيجي لهذا الصراع، في حين ستكون اليونان ضحيته. والحقيقة أن ماكرون يؤجج أزمة مصطنعة من جديد، من أجل الظهور كمنقذ لأوروبا. ولا شك أن تركيا أيضاً ستواجه خسائر حال نشوب صدام كهذا.
الاتحاد الأوروبي يقف على ركيزتين أساسيتين، الأولى هي الاقتصاد، والأخرى تتمثل في الدبلوماسية، في حين نقل الاتحاد زمام مبادرته إلى الناتو فيما يتعلق بقضايا الأمن والدفاع.
وفي الناتو لا تزال جميع الخيوط بيد واشنطن إلى حد كبير، وعلى هذا النحو يتم دفع الاتحاد الأوروبي إلى موقع ثانوي فيما يتعلق بقضايا الدفاع والأمن. أما المناقشات من قبيل تأسيس جيش أوروبي وهوية أوروبا العسكرية التي يجرى الحديث عنها من حين لآخر، فقد فشلت في أن تحظى بأي منظور ملموس حتى اليوم.
ولا يوجد في أوروبا سوى عدد قليل من القادة يتبنون هذا الملف، ولن نفاجأ بسعي فرنسا الماكرونية إلى إبقاء موضوع الجيش الأوروبي على أجندة الاتحاد، والهدف الحقيقي وراء ذلك يتمثل في تقليل القيود التي يفرضها الناتو، أكثر من إحلاله بديلاً للناتو .
غير أن مساعي ماكرون لتوحيد الدول الأوروبية، وحلفائه في الشرق الأوسط، ليس ضد روسيا أو الصين بل ضد تركيا، الدولة العضوة بالناتو، والمرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، تظل سيناريو غير مقنع.
لا شك أن الولايات المتحدة لا تزال هي اللاعب صاحب القول الفصل حتى اليوم فيما يتعلق بأمن أوروبا، ولا يبدو أن واشنطن عازمة على ترك حلفائها الأوروبيين وشأنهم، حتى لو وجهت لهم انتقادات بين الفينة والأخرى على خلفية إسهاماتهم في ميزانية الدفاع.
في حين أن بريطانيا فقدت تأثيرها إلى حد كبير فيما يتعلق بموضوع الجيش الأوروبي، وهي التي عارضت فكرة تأسيسه لسنوات طويلة. ولن نُفاجأ أيضاً بمواصلة بريطانيا رفضها للفكرة عبر موقعها بالناتو، لأن تأسيس جيش أوروبي بعيداً عنها، سيلحق أضراراً بالناتو.
ومثل هذا التطور سيشكل كابوساً أيضاً بالنسبة إلى الدول الإسكندنافية ودول البلطيق، وفي ألمانيا كذلك توجد جهات تقترب بحذر من فكرة تأسيس جيش أوروبي.
تسعى فرنسا إلى كسر هيمنة الناتو على أمن أوروبا من خلال اتهام الحلف بأنه "مات سريرياً"، فهي تعمل على إضعاف الناتو واستنزافه بشكل ضمني لدرايتها بأنها لن تتمكن كما تشاء من فتح مساحات جديدة لها ما دام الحلف مسيطراً على أمن أوروبا.
ولا شك أن إدارة ترامب التي لا ترغب في تحمل مزيد من المسؤولية والأموال من أجل أمن أوروبا، تعد عاملاً مهماً لا يمكن غض الطرف عن موقفه في هذه المسألة. فمن ناحية تريد واشنطن مواصلة دورها المهيمن على أمن أوروبا، ومن ناحية أخرى تمارس الضغط على حلفائها الأوروبيين لدفع فاتورة ذلك.
لطالما كانت ألمانيا غير راغبة فيما يتعلق بتمويل الناتو، وهو الحلف الذي تأسس لتقييد وجودها العسكري والسيطرة عليه. لذا تتعرض المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى انتقادات حول هذا الموضوع من طرف ترمب تصل إلى حد الإهانة.
وبينما تنتقد إدارة ترمب تطور العلاقات بين ألمانيا وروسيا، تولي هي الأخرى أهمية خاصة للعلاقات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وعلى هذا النحو تبرز تصدعات عميقة على صعيدي الدفاع والسياسة الخارجية داخل أوروبا وحلف شمال الأطلسي.
وزيادة عمق هذه التصدعات سيعود بالنفع بالتأكيد على روسيا ومصالحها، في حين تستمر فرنسا في إلحاق الضرر بالناتو عبر خطواتها الأحادية التي زادتها مؤخراً. أما روسيا فتواصل مشاهدة هذه الفوضى بسرور واستمتاع.
منذ البداية اختارت فرنسا موقعاً بعيداً لتقف فيه داخل الناتو، ولم تعلق قط أهمية كبيرة على الحلف فيما يتعلق بهيكلية أمنها. وهي تعي جيداً أن الناتو ليس آلة ستستخدمها بأريحية من أجل خدمة مصالحها الوطنية.
لذا لا تمتنع عن اتخاذ خطوات من أجل إضعافه وتفريغه. فرنسا أيضاً تتمتع باكتفاء ذاتي إلى حد كبير على صعيد التكنولوجيا العسكرية، وتبحث عن أسواق جديدة لبيع منتجاتها العسكرية، وتطور يومياً علاقاتها مع روسيا، وتحركت معها جنباً إلى جنب في ليبيا ضد حكومة الوفاق الوطني الشرعية المعترف بها دولياً. وترغب في بيع أسلحة وتطوير علاقات تجارية مع دول يعتبرها الناتو "تهديداً"، لكن مواقفها هذه تُقابل بالتقييد من طرف الناتو والولايات المتحدة.
لا شك أن فرنسا تضع الاتحاد الأوروبي والناتو في مخاطرة كبيرة من خلال خطواتها الأخيرة، وقد سهّل هذا الأمر فشل الناتو في وضع رؤية استراتيجية مشتركة وموحدة.
وبعد أن تركت دور القيادة في الاتحاد الأوروبي لألمانيا، وفي الناتو للولايات المتحدة، تسعى فرنسا إلى لعب دور أكثر فعالية عبر دبلوماسية عدوانية قائمة على التدخل في شؤون دول أخرى.
وتنفذ باريس ذلك عبر دول مثل اليونان، والإمارات، وسوريا، وأطراف كردية في العراق، ولبنان، ودول جنوب الصحراء. ومع وقوف تركيا في وجه كل خطوة يخطوها ماكرون بدأ الرئيس الفرنسي في الفترة الأخيرة في تبني سياسة أكثر عدوانية وشراسة ضد أنقرة.
ولن يفك عقدة استراتيجية ماكرون التصعيدية والمحفوفة بالمخاطر سوى واشنطن أو برلين. في حين ينبغي على تركيا مواصلة الدفاع عن حقوقها دون إعارة الانتباه لتصعيد ماكرون وحلفائه. وحتى لو حملت هذه الاستراتيجية التصعيدية بعض المخاطر بالنسبة إلى تركيا، إلا أنها تظل دولة تتمتع بخبرة وقدرات تمكنها من إدارة مثل هذه الأزمات، وستحقق تركيا النصر في حرب الأعصاب هذه في أعقاب مسيرة كفاح كبيرة وجهود دؤوبة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.