فلسفة التدمير.. كيف تحول إسرائيل قطاع غزة إلى مكان غير صالح للعيش؟
85% من سكان قطاع غزة باتوا نازحين بفعل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة الذي تحوّل إلى مكان غير صالح للسكن تقريباً، كما أن استعادة الظروف الاقتصادية تتطلب إعادة إعمار تفوق 3.9 مليار دولار، وهي تكلفة إعمار غزة بعد حرب عام 2014
غزة / صورة: AA (AA)

بعد أكثر من 130 يوماً على العدوان الوحشي الإسرائيلي، تحوّل خلالها قطاع غزة إلى رمز لمأساة إنسانية مروعة بعد ارتقاء نحو 29 ألف شهيد، وتدمير أكثر من نصف المباني والمنشآت داخل مساحة كثيفة السكان لا تتعدى 365 كيلومتراً، وتدمير ممنهج للحياة هناك، أدى هذا بمحكمة العدل الدولية أخيراً إلى الاقتناع بوجود أساس معقول لإمكانية ارتكاب إسرائيل خلال حربها على القطاع جريمة الإبادة الجماعية بحق السكان هناك.

لكن الحرب الأخيرة على القطاع وإنْ أسهمت في تصاعد الأزمة الإنسانية هناك إلى مستويات كارثية وغير مسبوقة فإنها لم تخلقها بصورة فعلية، فإسرائيل كانت قد عمدت على مدار سنوات الانتفاضة الثانية ثم بشكل خاص منذ فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006 وما تلاها من أحداث إلى تحويل غزة إلى ما بات يوصف على أنه "سجن مفتوح في الهواء الطلق".

ومع ذلك أصبحت حياة سكان القطاع بلا قيمة تُذكر، كما لم تكن هندسة الحصار المطبق على القطاع تسمح أساساً بمناقشة فرصة حصول نحو 2.3 مليون نسمة يعيشون في قطاع غزة على أبسط حقوقهم الأساسية.

خلال الأعوام الماضية حذّرت جهات دولية مختلفة من أن قطاع غزة لن يكون صالحاً للعيش في عام 2020 بسبب الحصار الإسرائيلي، الذي أوصل غزة إلى ما وُصفت بأنها نقطة "الانهيار المنهجي"، إذ أدى الحصار إلى تدهور الخدمات الأساسية

حصار غزة.. أضرار فادحة

لا يمكن الوقوف على السياقات التي دفعت المقاومة الفلسطينية وحركة حماس إلى تنفيذ عملية طوفان الأقصى من دون التعريج على الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة وتداعياته المأساوية على حياة سكانه، مع استمرار إسرائيل في استثمار الحصار باعتباره وسيلة "ضغط سياسي صلب" على كيان مُعادٍ، كما وصفت حكومة تل أبيب قطاع غزة بهذا الوصف رسمياً في عام 2007.

خلال سنوات ماضية نددت جهات دولية مختلفة بالآثار الكارثية لاستمرار الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، ودأبت على اعتباره "عقاباً جماعياً" ضدّ السكان، فيما أدت سياسة المنع من السفر والقيود الاقتصادية الواسعة إلى ما اعتبرته الأمم المتحدة "إعادة قطاع غزة إلى العصور المظلمة".

وأدى الحصار والهجمات العسكرية المتكررة قبل الحرب الأخيرة إلى ما اعتبرته الآليات الأممية "خلق ظروف ضارة للحياة البشرية"، مستندة في ذلك إلى جملة واسعة من الشواهد، منها نقص المساكن ومياه الشرب وعجز الكهرباء، والنقص في الأدوية والرعاية الطبية ومواد البناء، وتلوث المياه الجوفية حتى أصبحت غير صالحة للاستهلاك البشري، وغيرها كثير من الآثار المدمرة للحصار طيلة عقد ونصف العقد من القيود والحصار المطبق.

تقييم التداعيات الاقتصادية والإنسانية

في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي أصدر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) تقريراً عن التداعيات الاقتصادية والإنسانية للحرب الجارية على قطاع غزة، وأشار فيه إلى الدمار غير المسبوق الذي لحق باقتصاد القطاع نتيجة الحرب، وأن الأمر يحتاج إلى عشرات المليارات من الدولارات وعقود من الزمن لإصلاح الأضرار.

وذكر التقرير أن 85% من سكان قطاع غزة باتوا نازحين بفعل الحرب الإسرائيلية على القطاع الذي تحوّل إلى مكان غير صالح للسكن تقريباً، كما أن استعادة الظروف الاقتصادية تتطلب إعادة إعمار تفوق 3.9 مليار دولار، وهي تكلفة إعمار غزة بعد حرب عام 2014.

كما أن معدلات النمو قبل الحرب بلغت 0.4%، فيما أن وقف الحرب الفوري ثم البدء بعملية الإعمار لن يعيدا الناتج المحلي إلى ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول إلا في عام 2092، أي بعد 70 عاماً، ومع ذلك فإنه حتى مع نمو سنوي بنسبة 10% فسوف تستغرق العودة إلى مستويات 2006 حتى عام 2035، حسب التقرير.

وبناءً على ذلك، حذّرت الأونكتاد من أن العودة إلى الحالة التي سبقت الحرب ليست خياراً مع استمرار تأثير القيود الاقتصادية طويلة الأمد، وبالتالي يجب رفع الحصار عن قطاع غزة وقبلها إنهاء الحرب.

كانت غزة نموذجاً مثالياً للحرب الحضرية، كما وصفها ستيفن غراهام، وبينما كانت مأساة الضعفاء والأبرياء غير مرئية للعالم الخارجي فإنه كان على الأقوياء أن يكون وجودهم البيولوجي سهل التضحية به مع السلطة الإسرائيلية الاستعمارية التي "تمسك بحق القتل مع إفلات من العقوبة، لكنها انتزعت المسؤوليات الأخلاقية والسياسية أو الإنسانية كلها من السكان"

غزة التي لم تعُد صالحة للعيش

خلال الأعوام الماضية حذّرت جهات دولية مختلفة من أن قطاع غزة لن يكون صالحاً للعيش في عام 2020 بسبب الحصار الإسرائيلي، الذي أوصل غزة إلى ما وُصفت بأنها نقطة "الانهيار المنهجي"، إذ أدى الحصار إلى تدهور الخدمات الأساسية، بما في ذلك الخدمات الصحية وخدمات الطوارئ، والعجز عن توفير المواد الغذائية، وتلوث مياه البحر المتوسط بسبب تصريف مياه الصرف الصحي غير المعالجة يومياً في البحر، كما اختفت تقريباً مياه الشرب الآمنة.

ودفعت الحرب الجارية جهات مختلفة إلى الإعلان عن أن القطاع غزة لم يعُد صالحاً للعيش بصورة فعلية بعد أن تحوّل إلى منطقة كوارث بفعل الحصار الإسرائيلي الممتد لأكثر من 15 عاماً، واعتماد أكثر من 80% من السكان على المساعدات الدولية.

بفعل الحصار أصبح أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، فيما ارتفعت نسبة البطالة إلى 46%، وهو مستوى من بين أعلى المعدلات في العالم، فيما كان أكثر من 70% من الشباب عاطلين عن العمل.

وبينما أدى الحصار إلى تدمير اقتصاد غزة وعزل السكان عن العالم الخارجي، فإن الظروف التي خلقتها القيود الإسرائيلية جعلت من الصعب على غالبية السكان الحصول على مياه نظيفة أو كهرباء أو نظام صرف صحي مناسب، كما عمدت إسرائيل إلى عرقلة عمليات البناء وتأهيل البنى التحتية من خلال القيود الواسعة على واردات السلع الأساسية.

وقد فاقمت الحرب الجارية على القطاع الأزمة الكارثية، إذ أدى القصف إلى تسوية مساحات شاسعة من القطاع بالأرض وتحويل أحياء بأكملها إلى أنقاض، مع نزوح ثلثي سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة إلى الجنوب، وخصوصاً مدينة رفح المهددة اليوم بعملية عسكرية قد تكون عواقبها وخيمة على حياة النازحين.

هندسة تدمير مجتمع غزة

لم تكن التصريحات الإسرائيلية خلال الحرب التي وصفت سكان غزة بـ"الحيوانات البشرية"، أو التي ترفض إعفاءهم من المسؤولية، جديدة في جوهرها، وقد قامت فلسفة العمل العدائي الإسرائيلي ضد القطاع منذ الانتفاضة الثانية على تجريد قطاع غزة من أي حصانة ضد القتل والتدمير عبر وصف البنية الحضرية في غزة بأنها "بنية تحتية للإرهاب" وبالتالي وجود ضرورة لتدميرها.

كانت غزة نموذجاً مثالياً للحرب الحضرية، كما وصفها ستيفن غراهام، وبينما كانت مأساة الضعفاء والأبرياء غير مرئية للعالم الخارجي فإنه كان على الأقوياء أن يكون وجودهم البيولوجي سهل التضحية به مع السلطة الإسرائيلية الاستعمارية التي "تمسك بحق القتل مع إفلات من العقوبة، لكنها انتزعت المسؤوليات الأخلاقية والسياسية أو الإنسانية كلها من السكان".

وهكذا تحولت حياة سكان غزة بالضرورة إلى شأن أقل من النظر إليه بجدية على المستوى الدولي، وبات محاولات الخلاص من هذا الواقع محل استغراب وجدل شديدين في العالم، وخلال هذا الجدل يستمر الفلسطينيون في القطاع بفقد العشرات من أبنائهم بصورة يومية، فيما يعلن برنامج الغذاء العالمي رسمياً أن نصف سكان غزة يتضورون جوعاً، وأن 90% من السكان يظلون دون طعام لمدة يوم كامل.

وأخيراً، فرغم أن المؤشرات الأولى تفيد بتعثر خطة الحكومة الإسرائيلية الهادفة إلى التهجير القسري للفلسطينيين نحو سيناء، فإن السلوك الإسرائيلي خلال الحرب يتجاوز مسألة الانتقام أو محاربة المقاومة وتدمير كتائبها إلى سياق أوسع من ذلك، عبر تدمير سريع ومكثف لكل مقومات الحياة داخل قطاع غزة، وجعل إمكانية الإصلاح والترميم معقدة لسنوات، بما يكفي لدفع السكان الذين رفضوا التهجير تحت القصف إلى التفكير بالهجرة الطوعية بعد الحرب، ومن ثم تحويل تلك السياسية إلى درس عملي لكيفية تعامل القوى المنظمة عسكرياً مع البيئة الحضرية المعادية، ومن قبل ذلك تقليص الخطر الكامن من القطاع الذي مثّل وما زال يمثل معقلاً للقومية الفلسطينية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي