وهي الاتفاقية التي وقعت بين الطرفين عام 2015، ووضعت حداً للقتال الضاري الذي نشب في شرقي البلاد بين القوات الأوكرانية وانفصاليين مدعومين من روسيا عام 2014.
واندلع التّوتر بين أوكرانيا وروسيا على إثر إطاحة الأوكرانيين برئيسهم المقرب مِن روسيا فيكتور يانكوفيتش من خلال ثورة شعبية أخذت الطابع العنيف، حيث اندلعت مواجهات مسلحة بين المحتجّين وقوات الأمن في عموم البلاد خصوصاً في العاصمة كييف والمقاطعات الغربية مهد القومية الأوكرانية. وقد اندلعت هذه الثورة جراء فشل يانكوفيتش في التّوصل إلى اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي من أجل الحفاظ على علاقته مع روسيا وهو ما فُهم داخلياً حينها بأنه ارتهان معيب للكرملين.
وقد تصاعد التوتر، وبلغ ذروته، عندما ذهبت روسيا، وبشكل أحادي الجانب إلى ضمّ شبه جزيرة القرم الأوكرانية لسيادتها عبر استفتاء شكّكت العديد من الأوساط الدولية بنزاهته. وقد مثّل هذا التصرف انتهاكاً صارخاً لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة، واعتداءً على وحدة أراضيها. وبالرغم من الإدانات الدولية الواسعة، إلا أن موسكو أصرت على موقفها، في الوقت الذي أخذت فيه خطوات تصعيدية من خلال دعم الانفصاليين الأوكرانيين في شرق البلاد وهو الأمر الذي عكس جديّة روسيا في معاقبة أوكرانيا على توجهاتها الغربية.
ويأتي التصعيد الجديد، الذي أسفر عن مقتل أربعة جنود أوكرانيين على يد انفصاليين مدعومين من روسيا بمنطقة "دونباس" يوم 26 مارس/آذار الماضي، في ظرف حسّاس مازال العالم فيه يترقب توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة. ومن هنا يرى العديد من الخبراء أنّ توقيت هذا التصعيد يحمل في جعبته العديد من الرسائل تودّ روسيا أن ترسلها للغرب عموماً وللولايات المتحدة على وجه الخصوص.
من هذه الرسائل ما هو موجّه لجسّ نبض الإدارة الأمريكية الجديدة خصوصاً في ظل حالة النفور التي ظهرت على السطح بشكل لا لَبس فيه بين الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ضوء اتّهام الأول له بأنه "قاتل" وبأنه سوف يحاسب على تدخله في الانتخابات الأمريكية 2020، وهو ما أثار ردوداً غاضبة من موسكو التي طالبت بايدن بإجراء حوار عام لدحض هذه المزاعم وتبيان من هو القاتل الحقيقي.
رسائل جسّ النبض هذه هي ما أكدها مسؤول كبير سابق في إدارة الرئيس ترمب لمجلة فورين بوليسي حيث قال: "قد تكون هذه مناورة للقوات لاختبارهم لنا فقط لمعرفة رد فعلنا"، مضيفا أنّ الروس "بحاجة إلى توضيح ماهيّة السياسة بشكل علني. فالمزيد من الغارات الروسية غير مقبول".
من جهة أخرى، تحاول روسيا تذكير الولايات المتحدة بأنها ما زالت فاعلة في الملفات الدولية الحساسة التي تمسّ حلفاءها الأوروبيين بشكل مباشر. فأوروبا ككيان سياسي، ومن خلفها حلف شمال الأطلسي، كحلف عسكري، سعوا وعلى مدار عقود إلى التوجّه شرقاً في الدول والأقاليم التي كانت في يوم من الأيام تابعة للاتحاد السوفيتي، واستمرت بعد انهياره ضمن فضاء النفوذ الروسي.
فروسيا ترى أنّ أوروبا قد استثمَرت في فترات ضعفها بُعيد انهيار الاتحاد السوفيتي، للتمدد في حديقتها الخلفية، الأمر الذي ترى فيه تهديداً لأمنها القومي. فدول مثل ليتوانيا، ولاتفيا وإستونيا قد انضموا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ومنطقة اليورو الاقتصادية في الفترة الممتدة ما بين 2004 و2014، في الوقت الذي قدّمت فيه دول مثل مولدوفا طلبَ الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عام 2013، في حين تسعى أوكرانيا للانضمام لولا المعارضة الشديدة من موسكو.
وفي الوقت الذي تشكّل فيه هذه الدولة أهميّة استراتيجية لقربها من الحدود الروسية، إلا أنها تبقى صغيرة نسبياً مقاربة بدولة مثل أوكرانيا، ولذلك فإنّ أي اقتراب غربي من أوكرانيا أو بالعكس يثير لدى موسكو حساسية مفرطة لأمنها القومي الأمر الذي يجعلها تتحرك بطريقة خشنة لردع أي تتقارب بينهما. ومن الجدير ذكره أن حسابات روسيا مع أوكرانيا لا تتعلق بالأبعاد الجيوسياسية وحسب، بل بأخرى ثقافية وتاريخية ذات ارتباط وثيقٍ بمكانة روسيا على المسرح الدولي، فأوكرانيا تُعتبر مهد الإمبراطورية الروسيّة القيصريّة، فالدولة الروسية بشكلها الحالي لم تكن لتتشكل لولا نهوض دولة كييفسكايا روس.
ربما الرسالة الأخير لروسيا هي تلك الموجهة لحلف الناتو تحديداً. فقد هددت موسكو بأن أي وجود لقواتٍ من الناتو على الأراضي الأوكرانية سوف يجابه بردٍ قاسٍ من موسكو. وبالرغم من تنديد حلف الناتو بتحركات روسيا العسكرية على الحدود مع أوكرانيا، إلا أنّ تحركاً حقيقياً على الأرض من الناتو لم يُتخذ بعد. وكانت العلاقات بين روسيا والناتو قد توقفت بُعيد ضمّ الأخيرة شبهَ جزيرة القرم، وهو ما حفّز الناتو على اتخاذ خطوات على الأرض تمثلت بإعادة انتشاره في مناطق واسعة من دول بحر البلطيق.
فمنذ أحداث 2014 في أوكرانيا، عزز الناتو والجيش الأمريكي وجودهما بشكل كبير في أوروبا الشرقية ليشمل نشر قوات الردّ السّريع التابعة لحلف الشمال الأطلسي، وتضمينها وحدات تحت قيادة قوات دول البلطيق، وبناء ترسانة مِن المعدات منها فرق قتالية من اللواء المدرع الأمريكي، وإجراء التمارين العسكرية بشكل مستمر ودوري.
ويرى بعض المراقبين أن تحرّكات روسيا نوعٌ من استعراض العضلات لردع أي توجه أوكراني جديد نحو الغرب، وهو لا يهدف بالأساس إلى إشعال حرب مع أوكرانيا أو احتلال الجانب الشرقي من أراضيها بمساعدة الانفصاليين، وهو رأي يخالفه آخرون ويرون أنّ ضمّ جزيرة القرم بدأت بتحركات مماثلة، ولذلك لا يمكن المراهنة على عقلانية روسيا عندما يتعلق الأمر بأمنها القوي، ويرون أن سيناريو الحرب مع أوكرانيا، أو احتلال شطرها الشرقي لا يمكن إغفاله.