إن ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، ودعوة الانفصاليين الموالين لروسيا في إقليم دونباس إلى إجراء استفتاء تقرير المصير أسوة بالقرم، وإعلانهم قيام ما يُعرف بـجمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، أدَّى إلى اندلاع الحرب الأهلية في ربيع 2014، التي ذهب ضحيتها حتى الآن أكثر من 13 ألف قتيل ونزوح ما لا يقل عن 1.4 مليون من سكان دونباس داخلياً، وفرار أكثر من 75 ألفاً على الأقل إلى روسيا.
خروج أوكرانيا من الفلك الروسي في عام 2013 وتحوُّل نظامها السياسي الجديد إلى خصم لموسكو وحليف للولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وسعيها منذ عام 2014 نحو التكامل مع الغرب. كل هذا مجتمعاً شكّل هزة وهزيمة جيوسياسية من الصعب على روسيا الاستسلام لها بسهولة، بخاصة أن موسكو تعتقد أن أوكرانيا يجب أن تبقى تابعة لها وتدور في فلكها، لا أن تصبح تهديداً متقدماً لأمنها القومي. ولعلّ أكثر ما أثار قلق موسكو هو سعي كييف للالتحاق بركب حلف الأطلسي عبر خطوات باتت عملية وواضحة المعالم لجميع المتابعين.
لا شك إن روسيا ترى أن أي تمدُّد حلف شمال الأطلسي يعني التمدد الأمريكي إلى قرب حدودها، وهذا ما يعتبره الكرملين خطّاً أحمر، ولذلك تتعامل موسكو بعدوانية مع كييف، باعتبارها أصبحت واجهة لمعركة كبرى تستهدف أمنها القومي ومجالها الحيوي، وهذا ما حدا بالكرملين إلى طلب ضمانات أمنية بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو خوفاً من نشر الصواريخ الأمريكية على الأراضي الأوكرانية في حال قبول عضوية كييف في الحلف.
طبول الحرب ونذرها
من خلال الحشد والحشد المضادّ والمناورات والتدريبات والتحضيرات الواسعة، وما رافقه من تصعيد وتعنُّت في المواقف بين موسكو من جهة، وواشنطن والغرب من جهة ثانية، ومع تدفق ترسانات الأسلحة الأمريكية والغربية الحديثة المتنوعة (صواريخ م-د جافلين وصواريخ ستنجر م-ط) وغيره من العتاد المتنوع الحديث الذي زوّد الجيش الأوكراني به، بدا واضحاً أن الواقع الاستراتيجي يقول إن الحرب إذا اشتعلت أوارها، وبادرت روسيا بشنّ عملياتها العسكرية ضد أوكرانيا، فإن كل الدلائل العسكرية تشير إلى أن هذه الحرب لن تكون مجرد نزهة قصيرة للقوات الروسية، أو ستكون كسابقتها، وبالسهولة التي سيطرت من خلالها موسكو على إقليم دونباس وشبه جزيرة القرم في مارس/آذار 2014.
رغم إنكار موسكو ونفيها وجود أي نية لها باجتياح أوكرانيا، بل وادعائها بأن الذي يجري ليس بأكثر من بروبوغاندا وتصعيد إعلامي غربي وأمريكي مفتعَل! لكن عملياً فإن الموقف الميداني مع القرائن المتوفرة والمؤشرات التكتيكية، والاستنفارات والحشود العسكرية الضخمة والمناورات الواسعة (عزيمة الاتحاد) التي تقوم بها القوات الروسية والبيلاروسية بالذخائر الحية، توضّح بجلاء قرب نذر اندلاع مواجهة واسعة مفتوحة الاحتمالات، مواجهة قد تعلن روسيا بدايتها، ولكن بالتأكيد لن يكون لها أن تعرف امتداداتها أو نهايتها ونتائجها والمشاركين فيها والكوارث التي ستخلّفها.
السيناريو التكتيكي والاستراتيجي الروسي المحتمَل لغزو أوكرانيا
من خلال التصعيد والحشد الروسي الكبير لترسانته في البحار، وعلى خطوط الجبهات المتعددة، فإن أي سيناريو هجومي محتمَل قد تقوم به موسكو لاجتياح أوكرانيا سيمر في اعتقادنا بالخطوات التالية:
أولا. هجوم إلكتروني وسيبراني روسي يستهدف أجهزة التحكم بالمنشآت الحيوية الأوكرانية، كمحطات الكهرباء أو الغاز والمطارات والبنى التحتية وشلها والهدف من ذلك إحداث الفوضى والاضطرابات والخلل داخل المجتمع الأوكراني ومحاربتهم نفسياً.
ثانيا. قيام روسيا بالترافق مع الهجوم البري والجوي بتفعيل أجهزة الحرب الإلكترونية بكل أنواعها على برمجيات الأسلحة الدقيقة، ووسائط الدفاع الجوي، والرادارات للقوى البرية والبحرية والجوية الأوكرانية بهدف التأثير فيها وإصابتها بالخلل، أو شلّها وإخراجها من المعركة.
ثالثا. المخطِّط الاستراتيجي والعملياتي الروسي سيكون هدفه مع بداية العمليات محاولة إطباق الحصار البري والبحري على الحدود الأوكرانية من ثلاث جبهات، والتضييق عليها وعزلها من خلال التحشدات الروسية شرقاً وشمالاً وجنوباً وفي شبه جزيرة القرم، وبحريّاً من البحر الأسود.
رابعا. قبل بدء الهجوم البري ستكون فترة محددة لتمهيد ناري كثيف تقوم به المدفعية والمدفعية الصاروخية والراجمات والطيران على بنك أهداف الأفضلية الأولى (مراكز القيادة والسيطرة الأوكرانية ومرابض المدفعية والصواريخ، وطرق الإمداد، إلخ).
خامسا. ستبدأ موسكو عملياتها البرية الواسعة، ليكون الهجوم الرئيسي فيها على الأغلب انطلاقاً من الجبهة الشرقية (إقليم دونباس) ومن عدة محاور، وستستخدم روسيا المتمردين الانفصاليين المدعومين من قبلها كرأس حربة في هذا الهجوم المحتمل، وذلك بمرافقة الطيران المقاتل والقاذف "سو 35 - سو 57 " وحوامات الدعم الناري المباشر "كاموف 52 وغيرها".
سادسا. ستكون محاور هجوم ثانوية أو تضليلية روسية تكون منطلقاتها من الجبهة الشمالية والجنوبية الشرقية ومن شبه جزيرة القرم حيث توجد أيضاً تحشدات عسكرية كبيرة، للمساعدة وتخفيف الضغط عن اتجاه الهجوم الرئيسي الروسي، والمتوقع أنه سيكون من الجبهة الرخوة (إقليم دونباس) ولتثبيت القوات الأوكرانية في مواقعها ومنعها من الإسناد والمناورة من اتجاه إلى آخر في أثناء القيام بالهجوم.
موقف أوكرانيا وقدراتها وخياراتها
عملياً يجب علينا أن لا ننسى أن الحرب إن قامت فهي بين دولة نووية قوية ودولة ناشئة، وعليه ومن خلال تقديرات المواقف العسكرية ومقارنة موازين القوى والوسائط والقدرات الهجومية والردعية لكلا الطرفين (روسيا وأوكرانيا)، نجد أن الفارق لا يقارَن، وهو كبير جداً لصالح الجانب الروسي في القوى البرية والبحرية والجوية كافة رغم الأطنان من الأسلحة والعتاد المتنوع الذي زودت به واشنطن والدول الغربية الجيش الأوكراني. وبالتالي فإن الجيش الأوكراني لا يملك خيارات كثيرة إن اشتعلت الحرب إلا الصمود ما أمكن في معركة دفاعية استنزافية قد تكون مكلّفة وطويلة يخوضها مع الجيش الروسي.
خيارات واشنطن والناتو
الرئيس الأمريكي جو بايدن لا يفكر بالتدخل بقوات قتالية، لكنه يفكر في دعم المقاومة الأوكرانية بعد الغزو. والمبرر وراء عدم انضمام واشنطن بشكل مباشر إلى الحرب الروسية-الأوكرانية يتلخص في أنه ليس لدى الولايات المتحدة التزام تجاه أوكرانيا، والمواجهة مع روسيا ستكون بمثابة مراهنة هائلة، بالنظر إلى احتمال توسعها في أوروبا وزعزعة استقرار المنطقة والتصعيد إلى مرحلة مخيفة تتمثل في المخاطرة بوقوع تبادل نووي.
ختاماً، يمكن القول إن روسيا عملياً لا ترغب في توسُّع الناتو وازدياد نشاطه في دول أوروبا الشرقية، وبالأخصّ نشر الصواريخ في دول مثل بولندا ورومانيا التي تعتبرها موسكو حديقة خلفية لها. فرفضت الدول الأعضاء في الناتو هذا الأمر قطعياً، وهذا ما عبّرَت عنه نائبة وزيرة الخارجية الأمريكية ويندي شيرمان حين قالت: "إننا لن نسمح لأي شخص بأن يعرقل ويحدّ من سياسة الباب المفتوح للناتو. وإن روسيا لا يحقّ لها التدخل في هذه العملية". إذاً فهل يكون هذا التعنت في المواقف بين الناتو وروسيا مغلقاً لأبواب الدبلوماسية وفاتحاً لأبواب الحرب والجحيم تنغمس فيه روسيا بحرب استنزافية أفغانية أخرى، أو بجرّ العالم إلى أتون خطر حرب نووية وعالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر تعيد الكون إلى ظلمات العصور الوسطى؟
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.