وقد أُجري اللقاء بدعوة مِن الرئيس أردوغان ليتحقق انعقاد مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين بعد 7 سنوات من إنشائه وذلك باتفاقٍ بين البلدين في إسطنبول عام 2014 في ظلّ حكومة علي زيدان، أي قبل دخول البلد في الحرب الداخلية عندما بدأ الانقلابي خليفة حفتر بالسيطرة على بعض المواقع وتجميد عمل البرلمان المؤقت والحكومة.
وقد استشعرت تركيا لِمَا من تحركات حفتر مِن تهديد حينها على مصالحها، فأغلقت قنصليتها في بنغازي بسبب الأوضاع وحذّرت رعاياها مِن السفر إلى ليبيا بل ووصل الأمر إلى إغلاق سفارتها في طرابلس عندما حاصر حفتر العاصمة وكان على بعد كيلومترات للسيطرة عليها وهو الأمر الذي أٌفشل لاحقاً من خلال دعم تركي قوي لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً مِن الأمم المتحدة، وهو ما أكّد عليه الرئيس أردوغان خلال المؤتمر الصحفي الذي عُقد عقب الاجتماع بقوله: "دعمُنا لليبيا حال دون سقوط طرابلس ومنع ارتكاب مجازر جديدة وضَمِن وقف إطلاق النار،" مؤكداً أنّ "الذين وقفوا إلى جانب الانقلاب والانقلابيين في ليبيا عوضاً عن الحق والعدالة والشرعية شركاء في المجازر، وأنّ "هدف تركيا الرئيس يتمثل بالحفاظ على سيادة ليبيا ووحدتها السياسية وسلامة أراضيها ورفاه شعبها، وأنّ تركيا ستواصل دعم حكومة الوحدة الوطنية الليبية كما فعلت مع الحكومات الشرعية السابقة".
حضر رئيس الوزراء الليبي في زيارته التي تستمر يومين إلى تركيا على رأس وفد كبير يضم 14 وزيراً وقيادات أمنية وعسكرية، والتقى الوزراء الليبيون مع نظرائهم الأتراك قبل انعقاد مجلس التعاون الاستراتيجي وجرى التفاهم على العديد من مجالات التعاون ضمن مباحثات موسعة.
وناقش الوفد في تركيا "مجموعةً مِن الملفات المشتركة في قطاع الخدمات (الطاقة والصحة) وعودة الشركات التركية إلى ليبيا واستكمال المشاريع المتوقفة. إضافة إلى ملفات أخرى على علاقة بقطاعات التعليم والصناعة والطاقة والصحّة، تضمنت توقيع اتفاقات شراكات جديدة في هذه القطاعات، بالإضافة لمستجدات الوضع السياسي في البلاد".
وقد أسفرت المباحثات عن توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم مثل إنشاء محطات كهربائية في ليبيا، وبناء محطة ركاب جديدة في مطار طرابلس الدولي ومذكرة تفاهم لبناء مركز تسوق في طرابلس ومذكرة تفاهم حول التعاون الاستراتيجي في مجال الإعلام، كما وقّع أردوغان والدبيبة على البيان المشترك للاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى. وأُعلن تسليمُ تركيا حوالي 150 ألف لقاح لفيروس كورونا إلى ليبيا ابتداءً من يوم 13 أبريل/نيسان 2021.
تحمل زيارة الدبيبة إلى تركيا العديد من الدلالات والمعاني، حيث جاءت الزيارة بعد أسبوعين فقط من زيارة رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا محمد المنفي في 26 مارس/آذار 2021 وهي تشير إلى استمرار الحكومة الليبية الجديدة في الالتزام بمستوى عالٍ من العلاقة مع أنقرة بل وتطويره بشكل أفضل إلى مستوى نموذجي حيث قال رئيس الوزراء الليبي، عبد الحميد الدبيبة، إنّ بلاده ترغب "في الوصول بعلاقاتنا مع أشقائنا الأتراك إلى مستوى نموذجي".
ومع الدور الكبير لتركيا في إزالة المخاطر التي كانت تهدد بقاء حكومة الوفاق، إلا أنّ الزيارة الخارجية الأولى لرئيس الحكومة الليبية كانت لمصر، وذلك أمر منطقي بحكم الجغرافيا والدور التاريخي لمصر في ليبيا. وفي هذا الخصوص يُعتقد أنّ تركيا دعمت بناء علاقات إيجابية بين الحكومة في طرابلس والقاهرة كما كانت تركيا تتعامل بحساسية مع مخاوف مصر من الأوضاع في ليبيا وحرصت على طمأنة القاهرة على أمنها ومصالحها، ولعلّ هذا الأمر له انعكاس واضح على عملية التقارب الجارية الآن بين تركيا ومصر والتي ظهر العديد من المؤشرات عليها خلال الأيام الماضية.
تأتي زيارة الدبيبة ووفده الكبير أيضاً بعد أسبوع من زيارة رئيس الوزراء اليوناني إلى طرابلس، حيث دعا المسؤولين هناك إلى إلغاء الاتفاق على مناطق الصلاحية البحرية مع تركيا، ومع أن القيادة الجديدة المتمثلة في المنفي والدبيبة تعمل على تطوير رؤى جديدة للحوار مع الدول كافة المنخرطة مع ليبيا وخاصة في قضايا المناطق البحرية إلا أنّ الزيارة تؤكّد أنّ الحكومة الليبية الحالية تحترم الاتفاق البحري الموقّع مع الجانب التركي، وتلتزم به أو على الأقل تؤكد صحة الأُطر التي مهدت له كما جاء في كلمات الدبيبة بالتحديد.
ومع ذلك ما زالت اليونان تحاول الضغط على ليبيا، وفي هذا السياق فقد تزامنت زيارة وزير الخارجية اليوناني إلى شرق ليبيا مع زيارة الدبيبة ووفده إلى أنقرة مما يشير إلى أنّ بعض التحديات قد تبقى أيضاً مستمرة.
يشير هذا اللقاء إلى أنّ تركيا مستمرة في دورها الإيجابي في ليبيا، ومستمرة في دعمها للعملية الانتقالية السياسية التي تلت الحوار السياسي خلال العام الماضي، وستواصل دعمها لدور الحكومة الليبية الحالية في قيادة البلاد نحو الانتخابات في نهاية العام الجاري، وقد لاحظنا ذلك في حديث أردوغان في المؤتمر الصحفي المشترك مع الدبيبة عندما دعا أردوغان المجتمع الدولي إلى تقديم "دعم صادق" لليبيا لإجراء الانتخابات في موعدها المقرر.
ومع أنّ الزيارة حملت معها مؤشرات كثيرة على التعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والطاقة والتعليم والإعلام وغيرها، إلا أنّ دلالاتها السياسية تبدو الأبرز من خلال تأكيد أهمية دور تركيا في تحقيق الاستقرار في ليبيا وحرصها على سيادة وسلامة أراضي ليبيا.
وتبقى الإشارة مهمة في ظلّ الأجواء الأخوية التي سادت اللقاء أنّ الرئيس التركي لم ينس التأكيد على يقظة تركيا للدور الخارجي التخريبي في ليبيا والذي وإن كان قد تراجع، فهو لا يزال يتحمل المسؤولية عن المعاناة والدماء حيث قال إنّ "الذين وقفوا إلى جانب الانقلاب والانقلابيين في ليبيا عوضاً عن الحقّ والعدالة والشرعية شركاءُ في المجازر". متمنياً أن "تنتهي مرحلة استغلال الصراع لتحقيق مكاسب تتعارض مع مصالح الليبيين عبر مساندة أطراف غير شرعية".
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.