والغريب والمستهجَن في هذه العملية الخاصة أنه قد حشد لها قرابة 200 ألف جندي من القوات المسلحة الروسية بمختلف أنواعها وصنوفها لتقوم باجتياح بري واسع النطاق مترافق مع ضربات جوية وصاروخية طالت ولا تزال أهدافاً مدنية وعسكرية وحيوية في مختلف أنحاء البلاد (مطارات قواعد بحرية، ومستودعات للأسلحة، ومقرات القيادة).
واللافت في هذا القصف أنه تَركَّز على العاصمة كييف ومحيطها، والمدن الرئيسية الكبرى الواقعة على الضفة الشرقية لنهر دينيبر. ترافق ذلك كله مع زحف للقوات مجوقلة ودخول واسع لقوات مدرعة وميكانيكية من محاور عديدة في شمال وشرق وجنوب البلاد انطلاقاً من الحدود الروسية والبيلاروسية ومن إقليم دونباس الذي يسيطر الانفصاليون المدعومون من موسكو على ثلث مساحته منذ عام 2014.
يأتي هذا كله مع قيام البحرية الروسية أيضا بإنزالات لمشاة البحرية على سواحل بحر آزوف والبحر الأسود بمساندة برية انطلقت من محاور شبه جزيرة القرم بهدف وضع مدن الجنوب الساحلية بين فكَّي كماشة وتطويقها والسيطرة عليها، وهذا ما حصل فعلاً بشكل سريع مع مدينة خيرسون، أول المدن التي سقطت والتي باتت الآن "قاعدة انطلاق" روسية متقدمة تُشَنّ منها هجمات من محاور مختلفة للسيطرة على مدينة ماريوبول وأوديسا وميكولايف، بهدف العمل على فصل ارتباط البر الأوكراني عن سواحله الواقعة على بحر آزوف والبحر الأسود.
فكرة الأعمال الروسية وأهدافها
الواضح منذ الساعات الأولى لانطلاق الغزو أن المخطط الاستراتيجي الروسي كان قراره منصبّاً على تدمير البنى التحتية وتحييد الأهداف العسكرية الهامة وأهداف الأفضلية الأولى وإخراجها من المعركة (المطارات ووسائط الدفاع الجوي والرادارات والمدفعية الصاروخية) وغيرها من الأهداف الحيوية التي ستؤثّر في القدرات الدفاعية للجيش الأوكراني وفي صموده وروحه المعنوية، وبذلك ستمنح الفرصة المثلى للطيران الحربي وحوامات الدعم الناري والإنزالات الجوية الروسية لتسيُّد الأجواء والعمل بأريحية فيها، والوصول إلى تحقيق الأهداف العسكرية والسياسية ببسط السيطرة الخاطفة على العاصمة كييف والمدن الأوكرانية الهامة بأقل وقت وأقلّ خسائر ممكنة!
عملياً وبعد ثلاثة أسابيع على بدء العملية الروسية ومن خلال متابعة مجريات المعارك وجبهاتها المفتوحة وقراءة الخارطة الميدانية والتغيرات الطارئة عليها، فإنه بات واضحاً لنا أن الجيش الروسي بُعَيد سيطرته على مدينة خيرسون الساحلية يتعرض لحرب استنزاف دامية بات يغوص من خلالها شيئاً فشيئاً في المستنقع الأوكراني، بل وأصبح يعاني من مشكلات عديدة لعل من أبرزها صعوبة الإمدادات اللوجستية (المؤن والوقود والذخائر) والتخبط الميداني والعقم التكتيكي الواضح في إدارة المعارك، والتحكم العملياتي بمحاور القتال، وسوء التقدير لقوة الخصم وطرق وتكتيكات وأساليب قتاله، ناهيك بالضعف والأخطاء في المعلومات الاستطلاعية والاستخباراتية، قبل وفي أثناء الغزو، وهذه الأمور مجتمعة كلّفَت الجيش الروسي على الجبهات ومحاور القتال كافة زيادة في المعاناة والتعرض للخسائر الفادحة في الأرواح والمعدات، وهذا ما انعكس بشكل واضح على العمليات القتالية التي بات البطء وانخفاض الوتيرة سيد المواقف فيها. .
نظرة في الخطة العملياتية الروسية
من خلال المتابعة الميدانية فلم يتغير السيناريو العسكري الروسي المتبَع على الجبهات الأوكرانية كافة، الشمالية والشرقية والجنوبية، وبات ينحصر هذا السيناريو بتحقيق أهداف رئيسية أبرزها العمل على تقطيع أوصال الجغرافيا الأوكرانية من محاور وجبهات عدة، وفرض حصار على المدن وتضييقها من خلال قضم الضواحي المحيطة بالتتابع، والتضييق أمنياً ومعيشياً على السكان المدنيين من خلال القصف والتجويع وقطع الماء والكهرباء والغاز لإجبارهم على النزوح أو الضغط على حاميات المدن لرمي السلاح والاستسلام، والعمل وفق سياسة النفَس الطويل على إضعاف صمود المقاتلين المحاصَرين من خلال أعمال المناوشات الدائمة لاستنزاف الذخائر والمؤن لديهم، وأخيراً بدء تقسيم المدينة إلى مربعات عديدة واقتحام هذه المربعات وتطهيرها وعزلها بالتتابع إن أمكن.
الجيش الأوكراني ومعارك دفاعية ناجحة
مما لاشك فيه أن كل الدلائل والتحليلات كانت تشير إلى أن الجيش الأوكراني بالنظر إلى الفارق الشاسع في ميزان القوى والوسائط ونسبتها والتفوق الواضح والكبير للقوات الروسية فيها، هذا الجيش المتواضع لن يصمد إلا أياماً قليلة معدودة وينكسر ويهزم أمام الضربات والهجمات الروسية العنيفة التي سيُستخدم فيها أحدث أنواع الترسانات البرية والبحرية والجوية الصاروخية التي وصلت إليها التكنولوجيا الروسية. ولكن الواقع الميداني على ما يبدو وبعد دخول الحرب أسبوعها الرابع قد أسقط جميع هذه الحسابات والتوقعات والتحليلات، أقلها في الوقت الحالي، وذلك بسبب الصمود والثبات غير المتوقع والمفاجئ الذي أبداه الجيش الأوكراني والذي -حقيقةً وللإنصاف- يدير قادته وأركانه معارك دفاعية لافتة في نتائجها تُحسَب لهم حتى الآن.
وفي الحقيقة لو أن الجيش الأوكراني خاض مع الروس وواجههم بتكتيكات الحروب التقليدية لكانت هذه المعركة قصيرة ولتدمرت قدراته وسقطت المدن الأوكرانية بالتتابع خلال أيام عدة. وهذا ما استدل عليه القادة العسكريون الأوكران في وقت مبكر بعدم جدوى خوضهم المعارك التقليدية والحرب الكلاسيكية أمام قوة متفوقة كالجيش الروسي، بخاصة أن هذه المعارك تجري على جبهات عدة تمتدّ لآلاف الكيلومترات، وأقصد هنا عدم جدوى الدفاع من حالة التَّماسّ المباشر أو عدم التَّماسّ المباشر أو حتى خوض المعارك التصادمية، ولذلك توجهت القوات والمقاومة الأوكرانية إلى القتال وفق التكتيكات الأكثر نجاعة، وهي الأكمنة والإغارات بأنواعها، وحروب العصابات والمجموعات الصغيرة التي تعتمد في خططها على التمركز المُخفَى والمستور والمناورة والتحرك السريع، وقطع طرق التحرك والإمداد وشل الإمدادات الروسية، وتكبيد القوات الغازية في أثناء ترتيبات التحرك وترتيب ما قبل القتال الخسائر الفادحة، بخاصة بعد أن تم تزويد المقاتلين الأوكران بآلاف من صواريخ م.د الأمريكية من نوع جافلين (الرمح) والبريطانية من نوع N Law وصواريخ ستينغر الأمريكية المضادة للطائرات.
إضافة إلى المهمات الكبيرة والمفاجئة والناجحة التي قامت بها طائرات البيرقدار التركية التي أذهلت المتابعين بتصيُّدها لعشرات الأرتال الروسية المختلطة في أثناء تحركاتها وقبل وفي أثناء دخولها الأعمال القتالية وكبدتها خسائر فادحة.
من خلال المتابعة وحسب المعطيات والتحليلات فأستطيع القول إن الجيش الأوكراني قد استفاد كثيراً من المعلومات الاستخباراتية والاستطلاعية عن تحركات وتنقلات القوات الروسية المقدمة له من واشنطن ودول حلف الناتو الأخرى، ما حدا بالجيش الأوكراني إلى تركيز دفاعاته وخطوط قتاله المحصنة على تخوم ومشارف المدن الكبرى، وعند عقد المواصلات (المؤدية إلى كييف وخاركيف وماريوبول وميكولايف) وأقام دفاعاته بعمق مركزاً على تكتيكات خطوط وقتال الإعاقة الموزعة بشكل مُحكَم في الجبهة والعمق، وهذا الأسلوب القتالي الناجح عملياً كان له الأثر الأكبر في إرهاق الجيش الروسي وتكسير هجماته وصده وإثبات عجزه عن اقتحام هذه الخطوط حتى هذا الوقت.
ختاماً، لقد قال الكرملين في وقت سابق إن العمليات العسكرية في أوكرانيا ستستمرّ ما دامت ضرورية لتنفيذ الأهداف، مقدّراً أن الشعب الروسي سيدعم هذه العمليات، كما أكد الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف في بداية الغزو الأهداف المعلنة حين قال إن موسكو تهدف إلى فرض وضع محايد في أوكرانيا ونزع سلاحها والقضاء على النازيين الموجودين في البلاد، وهو يقصد بالطبع القيادة السياسية الأوكرانية وعلى رأسها الرئيس زيلينسكي.
ولكن الواقع الميداني لا يبدو أنه يسير باتجاه تحقيق هذه الأهداف المعلنة فقط، فالتركيز في الهجمات على المدن الموجودة في الجانب الشرقي لنهر دينيبر دون غيرها يوحي بأن الكرملين يخطّط ربما لقطع الطريق على واشنطن والغرب وتقليم أظفار الناتو من خلال زيادة العمق الاستراتيجي والجيوسياسي والأمني الروسي وفرض أمر واقع بتقسيم أوكرانيا إلى قسمين الفاصل بينهما نهر دينيبر، هذا النهر الذي يقطع البلاد من شمالها إلى جنوبها، بحيث يكون القسم الشرقي الغنيّ بثرواته وموارده وموانيه تحت نفوذ الدب الروسي الذي سيقوم حينها بتعيين حكومة وصاية لإدارته وجيش وأمن من الانفصاليين والناطقين بالروسية لحمايته.
أما القسم الغربي فيدعه بعد عزله عن السواحل والبحار بلا حول ولا قوة وعبارة عن خطوط فصل بين روسيا والناتو. فهل يكون هذا السيناريو حقيقة واقعة، أم إن الأيام القادمة ستظهر لنا أن روسيا قد غرقت في الأوحال الأوكرانية كما غرقت سابقاً في الرمال الأفغانية؟
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.