رمال دبلوماسية متحركة.. تنقية الأجواء في الساحة العربية إلى أين؟
الحدث الأبرز الذي عرفه العالم العربي، في الآونة الأخيرة، هو عودة العلاقات ما بين السعودية وإيران برعاية الصين.
انتقل وزير خارجيتها فيصل المقداد إلى عدة عواصم لدول عربية وازنة، منها الرياض والقاهرة والجزائر وتونس. / صورة: الخارجية السعودية (الخارجية السعودية)

الحدث الأبرز الذي عرفه العالم العربي، في الآونة الأخيرة، هو عودة العلاقات ما بين السعودية وإيران برعاية الصين.

البلدان المسلمان اللذان كانا يحبان أن يدير كلاهما ظهره إلى الآخر، بناء على اختلافات إيديولوجية جوهرية يجنحان الآن إلى لحوار، ويَقبلان بوساطة الصين، ويقرران استئناف علاقتهما، ويَشرعان في فتح الملفات الساخنة بما فيها بؤرة التوتر الكبرى، الملف اليمني.

هو الحدث الأبرز الذي تناسلت عنه أحداث أخرى تتقاطع مع الصورة التي ارتسمت عن العالم العربي، بكونه ساحة للحروب الأهلية وللفُرقة.

في السياق ذاته تشهد بعض عواصم العالم العربي إعادة العلاقات مع النظام السوري، وإمكانية عودة سوريا إلى مقاعد جامعة الدول العربية، أو على الأصح الأسرة العربية.

انتقل وزير خارجيتها فيصل المقداد إلى عدة عواصم لدول عربية وازنة، منها الرياض والقاهرة والجزائر وتونس. تظل بعض الدول على مواقفها السابقة، منها قطر، أو أخرى على مسافة، كما الكويت والمغرب، ولكن موضوع سوريا لم يعد "تابو".

آخر التطورات كان اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة إلى مصر والأردن والعراق بجدة، وذلك لتدارس موضوع مشاركة سوريا في القمة العربية المرتقبة في الرياض الشهر المقبل، وإن كان الأمر قد أثار استياء الجزائر، رئيسة الدورة، التي جرى تجاهلها.

وفي السياق الإيجابي نفسه، باشرت السلطات السعودية التواصل بوساطة من سلطنة عُمان في لقاء، هو الأول من نوعه، مع جماعة الحوثي كان من باكورته تبادل الأسرى بين الطرفين، والالتزام باستمرار اللقاءات.

وفي غمرة هذا السياق عرفت المنطقة حدثاً غير معزول، وهو عودة العلاقات الدبلوماسية ما بين قطر والبحرين.

توجد حالة من تنقية الأجواء في الساحة العربية، حسب المصطلح المتداول. فلا يمكن الحديث عن عملية لمّ الشمل، من دون تنقية الأجواء أولاً.

لم تشمل النزعة البرغماتية أرجاء العالم العربي كافة. لا يزال التوتر قائماً ما بين الجزائر والمغرب، رغم تردد أنباء وساطات لحلحلة الوضع بين البلدين.

ولا يزال الوضع مهزوزاً في السودان، وازداد احتداماً مع التطورات الأخيرة ما بين الجيش وقائده البرهان والدعم السريع بقيادة حميدتي.

ولكن الاتجاه العام في العالم العربي هو البرغماتية، فالقمة العربية المزمع انعقادها في الرياض لن تكون كسابقاتها بالنظر إلى السياق الإيجابي الذي يسبقها.

فهل يمكن أن تتمخض القمة عن ما لوّح به كثير من المحللين، أي عن ويستفاليا عربية، تُحِل الطرق السلمية في تدبير الخلافات، وترسي قواعد جديدة في العلاقات البينية؟

احتمالات ويستفالييا عربية في القمة العربية المقبلة وارد، بالنظر إلى السياق الواعد، وبالنظر إلى وزن السعودية ومكانتها.

التطورات التي عرفتها الساحة العربية تتقاطع مع النموذج (البارادايم) الذي كان متحكماً في المنطقة غداة الحرب العالمية الثانية، ذلك أن المنطقة في طور الخروج من الوصاية الأمريكية أو ما يسمى، في نوع من التورية، بالسلم الأمريكي، والتحلل من القواعد الناظمة التي أرستها الولايات المتحدة.

لم تصمد "العلاقات الاستراتيجية" التي كان من المفترض أن تربط الولايات المتحدة بحلفائها في المنطقة حين توصلت هجمات الدرون لضرب المنشآت النفطية الحساسة في السعودية على سبيل المثال.

يتوجب القول إن السياسة الأمريكية في المنطقة منذ سقوط حائط برلين كانت كارثية، واتسمت بالكيل بمكيالين، وتمثلت في عدم الالتزام بما وعدت به حيال القضية الفلسطينية أو في تدخلها المريع في العراق سنة 2003 أو في تخليها عن حلفائها.

وثاني المحاور هو دخول الصين حلبة الشرق الأوسط، ليس على شاكلة شريك اقتصادي فحسب، بل كفاعل استراتيجي.

السياسة الصينية تختلف عن السياسة الأمريكية، فهي تنأى عن الاشتراطية أو وضع شروط، وهي أقل كلفة مالية، ومجزية من الناحية الاقتصادية، وتقوم على معادلة رابح-رابح، الأمر الذي يغري كثيراً من البلدان في المنطقة لفتح علاقات استراتيجية معها. الصين منذ الآن فاعل استراتيجي في المنطقة وليس مجرد شريك اقتصادي أو تجاري.

أما العنصر الثالث، فهو أن مركز الثقل في العالم العربي، انتقل إلى الخليج، وأن قاطرة العالم العربي أصبحت مقرونة بالسعودية على وجه التحديد. لم يعد هاجس السعودية، كما تبدّى لفترة، "قومية سعودية"، أو أن يقتصر دورها على مستوى دول الخليج، بل يتجاوز ذلك إلى العالم العربي. ليس هناك دولة عربية أخرى، بالنظر إلى السياق الجديد، ووزن السعودية وتوجهاتها، يمكن أن تنازعها هذا الدور.

يمكن أن نضيف عاملاً رابعاً، هو المقاربة الجديدة للسعودية مع الأقطاب الإسلامية، سواء مع تركيا، أو إيران أو باكستان، من منظور تقاطع عوض تقاطب.

والسؤال هنا: هل الخيارات الأخيرة التي اتخذتها السعودية تكتيكية أم استراتيجية؟ الاحتمال الأكبر أنها استراتيجية على اعتبار أن الإصلاحات العميقة التي تباشرها السعودية لا يمكن أن تستقيم في سياق مضطرب. ومن شأن التحول الذي تقوده السعودية في سياستها الخارجية، أن ينعكس إيجاباً على منطقة الشرق الأوسط، بل على العالم العربي بأسره.

التغييرات العالمية الكبرى والتطورات الجديدة في منطقة الشرق الأوسط تفتح آفاقاً واعدة يتوجب الانخراط فيها ودعمها، وبلورتها في القمة العربية المقبلة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي