حلف الناتو وفرص تجدده في سياق عالمي جديد
مع استمرار الحرب الأوكرانية وتعقّد أبعادها وتوسّع تداعياتها، بات مفهوما "الأمن الدولي" و"الأمن الغذائي"، الأكثر تداولاً على الساحة الدولية.
صورة تجمع قادة دول حلف شمال الأطلسي في القمة التي جمعتهم في العاصمة الإسبانية مدريد (Кабинет на претседателот на РСМ)

وإذا كان الأمن الغذائي ينصرف عنواناً لأزمة ندرة القمح في العالم بسبب تعطّل تصديره، لا سيما من أوكرانيا وروسيا بسبب الحرب، والهند بسبب تراجع محاصيلها لارتفاع درجات الحرارة. فإن الأمن الدولي ينصرف عنواناً لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، في ظل الحرب الروسية على أوكرانيا، التي كان دافعها الأساسي وفق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إعادة الأمور إلى نصابها، بترويض أوكرانيا، واحتوائها في الفضاء الاتحاد الروسي، بما يشبه "حرب الاسترداد".

لم يتم تداول اسم الناتو منذ سنوات طويلة، مثلما يحدث اليوم. ما يؤشر بشكل واضح على تقدم أجندة الأمن الدولي والأمن القومي، على كل السياسات والاستراتيجيات الأخرى. كما يعكس أيضاً عودة سياسة التكتلات والأحلاف إلى الواجهة من جديد. وقد غدت قمم حلف شمال الأطلسي قمة القمم، وقراراته الحدث الدولي الأبرز. وإذا ما نظرنا إلى التقارب الروسي الصيني ومن يدور في دائرتهما، فنحن بصدد تشكل أقطاب جديدة في ظل رخاوة النظام الدولي، لا سيما مع السياسة الأمريكية المتأرجحة منذ سنوات، بين التقدم والتأخر، بين العالمية حيناً والانعزالية أحياناً.

وجاءت قمة الناتو في مدريد بين 28 و30 يونيو/حزيران، لإعلان الحلف، الذي يعد أكبر تجمع دولي بعضوية ثلاثين دولة، تجديد المفهوم الاستراتيجي، وتحيين وإعادة رسم الموجهات الأساسية للحلف خلال العشر أعوام القادمة، وتجديد آليات تنزيلها في ضوء المتغيرات الدولية.

اللافت أن قمة الناتو في لشبونة في 2010، والتي حيّنت المفهوم الاستراتيجي للحلف، والقائم على نشر السلم الدولي، حضرها الرئيس الروسي دميتري مدفيديف. يبدو الأمر مغايراً تماما اليوم، فروسيا التي حضرت اجتماع الناتو في 2010، شريكاً في السلم، يصنفها الناتو اليوم أنها الخطر الداهم الذي يجب مواجهته، باعتبارها الدولة المهددة للسلم والأمن الدوليين، والخطر على دول الحلف. حلف يعتبر في الفصل 5 من قانونه المنظم له، أن العدوان على أي عضو من الأعضاء هو عدوان على الحلف.

والحقيقة أن التوجه العام للحلف بناء على المفهوم الاستراتيجي الجديد، فضلاً عن إعادة تأكيده على التزام حماية الأمن القومي والدولي، وحماية الحرية والديمقراطية لدول الحلف، استوعب إلى حد كبير روح الرؤية الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي، القائمة على اعتبار روسيا الخطر الاستراتيجي والصين العدو الاستراتيجي. لذلك تمثل قمة مدريد في نهاية شهر يونيو 2022، القمة الأولى التي يتبنى فيها المفهوم الاستراتيجي للحلف مقاربة ضد الصين، باعتبارها قوة لها أطماع وسياسات توسعية "تتحدى مصالح وأمن وقيم دول الحلف". كما أن الصيف تنخرط في نشاط سيبراني معادي لأمن ومصالح الدول الأعضاء في الحلف.

مثلت الحرب الأوكرانية فرصة للحلف لإعادة ترتيب أولوياته، ومراجعة سياساته، وتدقيق مهماته، وتحديد المخاطر. كما حفزت الحرب الروسية على أوكرانيا أعضاء الحلف على التقارب وإعادة التماسك، بالنظر إلى ما أصاب الحلف من تصدع وفتور داخلي، بسبب مواقف الإدارة الأمريكية في عهد دونالد ترمب.

فترمب الذي رفع شعار "أمريكا أولاً" قلّل أهمية الحلف، بل واعتبره عبئاً على الولايات المتحدة دون جدوى. كما أن التحركات الأمريكية الانفرادية، على غرار الانسحاب الأحادي من أفغانستان وما حف به، ثم ما خلفه من تداعيات، وصفتها ألمانيا بأنها "وصمة عار" في جبين الغرب.

السلوك الأمريكي السلبي في العلاقة بالحلف الأطلسي، دفع الرئيس الفرنسي في أكثر من مناسبة إلى دعوة دول أوروبا إلى تبني سياسة دفاعية أوروبية، يعوّل فيها الاتحاد الأوروبي على نفسه، وليس على الآخرين. ولعل آخر تلك الخطوات التي بدت مهمشة لدور وأهمية الحلف، كانت الاتفاقية الثلاثية في سبتمبر/أيلول 2021، بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا وعُرفت باتفاقية "أوكوس" ومهمتها الحد من مخاطر التمدد الصيني في المحيطين الهندي والهادي. وقد أثارت اتفاقية "أوكوس" غضباً فرنسياً صاخباً، ونظرت إليها أوروبا بعدم الرضا.

ومع بداية الهجوم الروسي الثاني على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، الذي انعطف على الهجوم الأول في 2014 وانتزعت فيه القرم من أوكرانيا، أدركت دول الحلف خطورة التحولات، وأننا لسنا بصدد خلافات جزئية، وإنما تحرك روسي لضبط والسيطرة على فضاء جيوسياسي، يستجيب لأحلام فلاديمير بوتين في التوسع الإمبراطوري، واستعادة أمجاد روسيا التاريخية، التي عبر عنها في مقال فريد في 12 يوليو/تموز 2021، تحت عنوان "في الأسس التاريخية للوحدة الروسية الأوكرانية". أدرك الجميع أن دباً روسياً ينمو، وتنمو مخالبه، وتتسع مساحة تحركه. بعد نحو 5 أشهر من الهجوم، نجحت دول الحلف التي تعمل بالتناغم وبموجهات مشتركة في توفير سبل الصمود والمقاومة الأوكرانية، ومنع اكتساح روسي للبلاد، بل لعل الدعم الغربي لكييف، عبر دول الحلف، مكنها من إرباك المخطط الروسي، وتضييق خيارات موسكو، وشل فرص المناورة.

بيد أن هذه المكاسب في موجهة التمدد الروسي، تحتاج اليوم إلى تدبير وتدوير، بحيث لا يتم إهدارها، ولا خروجها على السيطرة. وهذا من أكبر التحديات التي تواجه الحلف الأطلسي في إدارته للأزمة أو للصراع الروسي الأوكراني.

فبعد مساعدة أوكرانيا على الصمود حربا، تبدو مهمة الحلف الأطلسي الأكثر تعقيدا، هي في سبل دعم أوكرانيا في الخروج بأقل الأضرار تفاوضا وسلما. صحيح أن الاختلاف داخل الناتو بينا، بين ما يريد الاستمرار فيما يراه استنزافا لروسيا وإنهاكها، وبين من يعتقد أن استمرار الحرب، ستكون له تداعيات خطيرة، قد تفيض خارج الحدود الحالية، وتتدحرج بوعي أو دون وعي إلى حرب بين روسيا والغرب.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار التداعيات الراهنة للحرب، إنسانياً (اللاجؤون وخطر المجاعات) وأمنياً (استعمال أسلحة محرمة والتهديد باستعمال النووي وتوسيع نطاق الحرب)، واقتصادياً (ارتفاع أسعار الطاقة) واجتماعياً (غلاء الأسعار والتضخم غير المسبوق في جل دول العالم. تبدو الأطروحة الداعية للمفاوضات راجحة وأكثر عقلانية. هنا تنهض تركيا فاعلاً أساسياً في هذا الصدد بحكم موقفها المتوازن من داخل الحلف، فضلاً عن علاقتها بطرفي الأزمة.

تضع الولايات المتحدة الأمريكية الصين منافساً شرساً وعدواً استراتيجياً، يتمدد متسارعاً، لتقويض نفوذها العالمي ومصالحها الاستراتيجية، بل وحتى إضعاف ما تسميه واشنطن "العالم الحر". لذلك ستحرص واشنطن على البحث عن سبل إنهاء الأزمة الروسية الأوكرانية، حتى وإن جاء ذلك ببعض التنازلات الأوكرانية لصالح روسيا، عبر ضمانات حقيقية وتفاهمات ضمنية تنهي الأزمة. وتدرك واشنطن والدول الغربية أن تفاقم الأزمة، سيفاقم الأزمات الدولية، وقد يتحول عديد من المناطق، بما في ذلك الشرق الأوسط وإفريقيا إلى بؤر للأزمات الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية.

لذلك تبدو حاجة الناتو إلى حسن إدارة الأزمة الأوكرانية ووضع نهاية لها، فرصة ليس فقط لاحتواء تداعياتها المركبة والكثيرة، وإنما أيضاً لتمكين الحلف من بعث رسالة واضحة إلى القوى الدولية المهددة للسلم والأمن الدولي، بأن أي مغامرة منها، ستضعها تحت رحمة أكبر وأقوى حلف عالمي، على جميع المستويات، قدرات عسكرية وإمكانات مادية، وتفوق استراتيجي. كما ستمثل المرحلة القادمة فرصة للحلف لتدقيق وضعه، في ظل رغبته في ضم أعضاء جدد. فالشعبوية الصاعدة في أوروبا والأزمات السياسية التي يعيشها عديد من الدول الأعضاء، مع حكومات هشة، بسبب نتائج الانتخابات في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا، سيعقّد مهمة الناتو، ويربك طموحاته في ترسيخ التضامن بين أعضائه، كما سيجعل التوافق على الإنفاق العسكري صعباً، بسبب الظروف الاقتصادية الراهنة.

في خضم هذه الأزمة تبدو تركيا أحد أبرز الأعضاء في الحلف، قوة عسكرية ودوراً استراتيجياً، قادرة على استثمار زخم الحلف، لتثبيت دورها لاعباً دولياً أساسياً، وأيضاً تصفير مخاطر وتهديدات، كانت بعض دول الحلف أو تلك الملتحقة به مؤخراً تتستر عليها، على غرار السويد وفنلندا.

سيواجه الحلف تحديات متوقعة وأخرى غير متوقعة، بعضها يتعلق بوضعه الداخلي وتضارب متوقع في أولويات أعضائه، وبعضها يتعلق بالتحول السريع في الأحداث العالمية، التي قد تفاجئ الحلف فيعجز عن مواكبتها. فهل ينجح حلف شمال الأطلسي في تحيين وتنشيط استراتيجيته المزدوجة: السيف والدرع؟

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي