انكسر الزّجاجُ وتصدّعت أشطارُه، فحملتْ عواصم الغرب قطعة واحدة تستقرئ منها هولَ المصيبة التي لحقت بالمستوطنين الإسرائيليين والرهائن لدى حماس، وسط تعبئة شاملة للطاقات العسكرية والسياسية الغربية في تأييد إسرائيل وحماية أمنها القومي.
انجرف المسؤولون في تلك العواصم نحو آفة التفكير الجماعي المتطابق (Groupthink)، ولم ينظروا إلى الشظايا الزجاجية الأخرى، بل تجاهلوا هول الكارثة الإنسانية التي ألمّت بالمدنيين الذين قتل القصفُ الإسرائيلي العشوائي أكثر من 11 ألفاً منهم خلال أربعين يوماً، ناهيك بالقطع العمد لإمدادات المياه والكهرباء والوقود.
أزمة إنسانية
ومع دخول الحرب شهرها الثاني، لا تزال منظمة الصحة العالمية تطالب بالسماح للفئات الأكثر ضعفاً من المصابين بأمراض مزمنة بمغادرة غزة، لتلقي العلاج في دول عرضت استقبالهم، مثل تركيا ومصر والإمارات.
وفي غزة 350 ألف مريض يعانون أمراضاً مزمنة، بما فيها السرطان والسكريّ وفقر الدم، فضلاً عن 50 ألف امرأة حامل، حسب بيانات منظمات الأمم المتحدة، ولم تسمح إسرائيل إلى اليوم سوى لنحو 80 مريضاً بالخروج من القطاع.
هي أزمة إنسانية، في ظل حرب من حروب الجيل الرابع بين طرفي مواجهة غير متكافئَين، فمن ناحية جيش نظامي متطوّر يسعى لفرض الأمر الواقع بالقوة، ومن الجهة الأخرى حركةٌ اجتماعيةٌ وطنيةٌ تتولّى المسؤولية في مجابهة منظومة احتلال غير شرعي بمقتضى القرارين 242 و338 وبقية قرارات الأمم المتحدة بعد اتفاق أوسلو القديم والاتفاقيات الإبراهيمية الجديدة.
وفي ضوء أدبيات علم السياسة وعلم الصراعات، فإن حركة المقاومة هي حركة اجتماعية متجدّرة في سياقها السوسيولوجي الفلسطيني وتُجَاري في سيرورتها تطور حركات اجتماعية تاريخية سابقة.
نذكر من هذه الحركات على سبيل المثال، "شين فين" الآيرلندية بين تأسيسها عام 1905 وانقسامها عام 1970، وفوزها بأغلبية مقاعد برلمان أيرلندا الشمالية عام 2022، وأيضاً جبهة التحرير الوطني التي كانت تعتبرها فرنسا "حركة مارقة" في الجزائر في بداية الخمسينيات، وتحوّلت إلى طرف مفاوِض من أجل إعلان استقلال الجزائر عام 1962.
كما بوسعنا ذكر المؤتمر الوطني بزعامة نلسون مانديلا في جنوب إفريقيا بين السبعينيات ووصفه بـ"الحركة الإرهابية"، وتولي مانديلا الرئاسة عام 1994، وكذلك تطور طالبان من حركة "إرهابية مارقة" عام 2001 إلى شريك مفاوض مع الولايات المتحدة في إعادة بناء أفغانستان عام 2021، والقائمة تطول.
بيد أن الأزمة متفاقمة حالياً في غزة وسط تقاعس حكومات الغرب عن الوساطة في التوصل إلى هدنة مؤقتة أو فرض وقف إطلاق النار، كما هو منطق ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص أولاً وأخيراً على "ضمان الأمن والسلم الدوليّين".
ازدواجية دولية
ويبرز أكثر من سؤال حول الغاية من نصوص القانون الدولي الإنساني سواء اتفاقيات جنيف الأربع منذ 1949، أو بروتوكولات 1977، أو مبدأ "المسؤولية عن الحماية" (R2P) الذي تبنّته الأمم المتحدة رسمياً منذ 2005.
ولم يقترب السّجال في الأمم المتحدة من مناقشة ضرورة التدخل في عز الحرب الضروس بمقتضى الفصل السادس أو السابع من الميثاق، كما كانت الحال عقب اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا أو إبان حرب البوسنة والهرسك عام 1994.
ولم يتجلَّ التفكير، ولو بالحد الأدنى، بشأن الحاجة إلى نشر قوة حفظ سلام دوليّة في غزة، لمراقبة الأعمال التي تستهدف المدنيين بشكل تعسّفي، فيما تنتشر تلك القوات الدولية بين 12 من بؤر الصراع في العالم.
هذه أضلاعُ مفارقة مهمّة وهي بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة إذا تأمّلنا المسافة القائمة بين المنحى المعياري، أي المثالية السياسيّة المتمثلة في ضرورة حماية المدنيين في الحرب من ناحية، والمنحى البراغماتي وهل يحرص المجتمع الدولي حقيقةً على قياس مدى التزام الأطراف المتصارعة تلك المبادئ وقواعد الاشتباك وبقية المحظورات خلال القصف الميداني.
يقول راز سيغال، أستاذ دراسات المحرقة والإبادة الجماعية في جامعة ستوكتون بولاية نيوجيرسي الأمريكية، إن "الحملة التي تشنها إسرائيل لتهجير سكان غزة، وربما طردهم تماماً إلى مصر، هي فصل آخر في النكبة، التي طُرد فيها نحو 750 ألف فلسطيني من منازلهم خلال حرب عام 1948، كما أدى إلى إنشاء دولة إسرائيل.
ويضيف سيغال في مقال بعنوان: "إبادة جماعية قائمة بذاتها" نشرتها مجلة "جويش كارونتس" (تيارات يهودية): "لكن الهجوم على غزة يمكن أن يُفهم أيضاً بمصطلحات أخرى باعتباره حالة نموذجية من حالات الإبادة الجماعية التي تتكشف أمام أعيننا".
من جهة أخرى، تركّز سردية بعض العواصم الغربية في سجالات مجلس الأمن الدولي في نيويورك على رفض الدعوات لوقف إطلاق النار.
وقررت الولايات المتحدة استخدام حق النّقض ضد أكثر من مشروع قرار ضمنها روسي وآخر برازيلي بذريعة أنه "لم يُفعل ما يكفي لتأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن النفس".
وجنّد وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن والمندوبة الأمريكية ليندا توماس غرينفيلد، طاقتيهما الذهنية ومهارتيهما الدبلوماسية لثني الأمين العام أنطونيو غوتيريش عن ذكر عبارتَيه المثيرتَين: "من الواضح حدوث انتهاكات لمبادئ القانون الدولي الإنساني"، وأن "لا طرف في أي صراع فوق هذا القانون".
ولوّح بلينكن بنبرة من ينطق بحكمة "الفضيلة السياسية" بعبارة تبريرية فضفاضة ترى أنه "لا يمكن لأي عضو (دولة) في هذا المجلس أن يتسامح مع ذبح شعبه".
أين القانون الدولي؟
ويمكن تحليل هذه المفارقة في وجود قانون دولي إنساني واضح البنود والقواعد، لكنه لا يوفر حماية المدنيين ولو بالحد الأدنى في غزة لأربعة أسباب نوردها باختصار هنا.
أولاً، لا يتحرّك القانون الدولي الإنساني من صفحات المراجع المرصوصة على الرفوف، إلا بفعل السياسيّين في مراكز صنع القرار الدولي والمحلي.
وعندما يبتعد مجلس الأمن الدولي في جلساته الطارئة عن التوافق على صيغة لهدنة مؤقتة، يكون مجلس الأمن قد انبرى إلى مؤسسة طيّعة لمن يمارس أكبر ضغط ممكن.
وكلّما قاومت الدبلوماسية الأمريكية مشاريع القرارات الروسية والبرازيلية، يتحوّل مجلس الأمن إلى ميدان استعراض القوة بحكم الفيتو، لا مجلس حكماء يتمسكون بـ"سياسة القيم" وبقية مناحي الفضيلة السياسية التي حث عليها أرسطو وأفلاطون قديماً، ونادى بها مهندس الحداثة الغربية إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر.
ينشطر المشهد حالياً إلى حلبتين للسجال السياسي، هما حلبة القوة وخطاب أمن إسرائيل في مجلس الأمن، وحلبة قيم الشرعية والحق والعدالة في الجمعية العامة ومنظمة الصحة العالمية واليونسيف واليونسكو والوكالات الدولية الأخرى.
ثانياً، بين فلسفة القانون الدولي الإنساني والمؤسّسات السّياسية والعسكرية والإعلامية وكل من يساهم في بلورة الخطاب العام أوقات السلم وأوقات الحرب منطقة رماديّة.
ويفرض خطاب الحرب ذاته ذهنياً ونفسياً بفضل مبدأ القوة وشتّى أصناف الواقعية السياسية بين واقعية "خالصة" وواقعية "دفاعية" وواقعية "هجومية" وواقعية "جديدة".
واجتمع حولها المنظّرون القدامى والجدد من هوبز إلى ميكيافيلي، وراينولد نيبور وإدوارد كار وهانز مورغانثو وكينيث والت، وريمون آرو وجون مورشايمر وستيفان والتز حالياً.
نحن الآن في حقبة مناورات اليمين واستعراض العضلات في العلاقات الدوليّة من طرف حكومة متطرفة بزعامة بنيامين نتنياهو في إسرائيل، وحكومات غربية ومطبّعة في المنطقة العربية، تخشى انتقام اللوبيات الإسرائيلية خلال الانتخابات مثل حكومة بايدن في واشنطن، وحكومة سوناك في لندن، وحكومة شولتز في برلين، وحكومة ماكرون في باريس.
أصبحت المعادلة الآن تشمل الخصم والحكم في صفّ واحد، وعُدنا من جديد إلى منطق القوة ذاته، الذي هيمن خلال حرب إسبرطة وأثينا قبل 2500 عام، عندما قال المؤرخ الإغريقي توسيدايدس: "للأقوياء أن يفعلوا ما يريدون، وعلى الضّعفاء أن يعانوا ما يتحتّم عليهم".
ويسعنا القول إنه في كل حرب ثلاث معارك متوازية، معركة عسكرية وأخرى إعلامية وثالثة سياسية، وبينها تتنافس سرديّات القوة والبطش وسرديات المعاناة وقيم الإنسانية.
وبعدما تفتّقت قريحة وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو بإلقاء قنبلة نووية على سكان غزة، ظل ضمن الحكومة، واتضح المؤشر على مدى ضعف نتنياهو واحتمائه بحزب "عوتسما يهوديت" بزعامة إيتمار بن غفير.
ثالثاً، رغم التعاطف مع الضحايا وعائلاتهم من بعيد، لم نصل بعد، رأياً عامّاً وهيئات مجتمع مدني عبر العالم، إلى تفكيك مقولة إن مقتل المدنيين "نتيجةٌ طبيعية" للحروب في غزة أو غيرها، وإعادة تركيب سلوك الجيوش التي أضحت تستخدم أدوات التكنولوجيا والأسلحة المتطورة في تكثيف مدى الفتك بالمدنيين أكثر من المقاتلين.
وأصبحت الجماهير خلف الشاشات تعايش نمطاً متواتراً في التطبيع مع إزهاق أرواح المدنيين على أنها مضاعفات "مرتقبة ومنطقية". فلماذا لم تركّب وسائل الإعلام المتطورة بعد نسقاً مدنياً أو خاصاً بالمدنيين ضمن تغطية الحروب؟ ولماذا لم تتجاوز التغطيات الإعلامية في العالم ما اعتُبر استثناءً عسكرياً مهيمناً في التغطية خلال المعارك؟
أعود إلى كتاب أصدرته مع زميلي الدكتور دانييل روثبار عام 2012 عنوانه "المدنيون والحرب المعاصرة: الصراع المسلح وأيديولوجيا العنف"، لأقتبس منه العبارة التالية: "يجري ترديد عبارة 'الأضرار الجانبية' بشكل متزايد في المؤتمرات الصحفية التي تنقلها قنوات التلفزيون وتتكرّر ضمن التقارير الإخبارية على مدار الساعة. يبدو أنّ فهمنا الجماعي يغرق في استيعاب ساذج لأساطير أو ميثولوجيا مألوفة تمتصّ جميع أعمال سوء المعاملة أو التعذيب أو الاغتصاب أو النزوح أو القتل التي يتعرض لها المدنيون جزءاً من نظام الحرب."
رابعاً، توجد حاجة إلى إعادة تركيب نظرية جديدة للتغيير، وهل يحدث بدوافع من أعلى إلى أسفل، أم بفعل الزخم المتنامي في حركية من أسفل إلى أعلى، وتبرز هنا الحاجة إلى ضرورة التشبيك مع المنظمات الدولية غير الحكومية وهيئات المجتمع المدني واتحادات طلاب الجامعات وجمعيات الأكاديميين، واليسار الليبيرالي والجماعات اليهودية غير الصهيونية المناصرة للحق الفلسطيني في الغرب.
وأظهر استطلاع أجرته جامعة ميرلاند أن نسبة الأمريكيين الذين يريدون أن تقف الولايات المتحدة إلى جانب الفلسطينيين ظلت ثابتة نسبياً منذ يونيو/حزيران الماضي.
وتعزّزت نسبة الذين يريدون أن تميل الولايات المتحدة نحو إسرائيل لا بين الجمهوريين فحسب، ولكن أيضاً بين الديمقراطيين، إذ ارتفعت من 13.7% في يونيو/حزيران إلى 30.9% في أكتوبر/تشرين الأول. كما ارتفعت في أوساط المستقلين من 20.8% في يونيو/حزيران إلى 37.9% في أكتوبر/تشرين الأول.
في الوقت ذاته، وقّع أكثر من عشرين من الكتّاب والفنانين اليهود الأمريكيين رسالة مفتوحة إلى الرئيس بايدن، يدعون فيها إلى وقف إطلاق نار فوري في قطاع غزة.
من بينهم جوديث باتلر التي تعد من أبرز المثقفين اليساريين في الولايات المتحدة، إذ قالت: "علينا جميعاً أن نقف ونعترض وندعو إلى وضع حد للإبادة الجماعية".
وأضافت باتلر: "إلى أن تتحرر فلسطين سنستمر في رؤية العنف. سنستمر في رؤية هذا العنف البنيوي ينتج هذا النوع من المقاومة".
وتختزل العبارة الأخيرة الجدلية الحتمية أنه كلما زاد العنف الإسرائيلي زادت المقاومة الشعبية الفلسطينية، عملاً بالقاعدة الفيزيائية لإسحاق نيوتن "لكل فعل ردة فعل في الاتجاه الآخر".
ويشير نائب الرئيس التنفيذي لمركز السياسة الدولية ماثيو دوس في مقالة نشرتها مجلة فورين بوليسي إلى "تدمير قصر أحلام آخر" أي جهود حكومة بايدن لتعزيز البنية الأمنية في الشرق الأوسط التي تهيمن عليها الولايات المتحدة من خلال اتفاقيات دفاع أوثق مع الحكومات القمعية المختلفة في المنطقة.
أما الحلمُ الأول فهو ما كان يتحدث عنه فؤاد عجمي مؤلف كتاب "قصر أحلام العرب" الصادر بالإنجليزية عام 1998، الذي ينتقد القوميين والمثقفين العرب.
وقد قال وقتها: "في التاريخ السياسي العربي المليء بالأحلام المحبطة، لن يُمنح كثير من الشرف للبراغماتيين الذين يعرفون حدود ما يمكن وما لا يمكن فعله".
وخلص إلى القول إنّ "الاختيار ليس بين السياسة الواقعية وسياسة القيم، بل بين استراتيجية أمنية أمريكية تتجاهل حقوق الإنسان واستراتيجية ناجحة".
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.