قبل أيام قليلة استفاقت إسرائيل على صفعتين؛ الأولى: وجّهها البرلمان الأيرلندي لها، إثر إقراره مشروع قرار يقتضي تجريم أي تعامل تجاري مع المناطق المحتلة (فعلياً المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية) بـ78 صوتاً مقابل 45، متحديةً الضغوط الإسرائيلية والأمريكية ومتحديةً القوانين الأوروبية والأمريكية، التي لا تسمح بالتمييز التجاري (تحديداً الولايات المتحدة التي أقرت قوانين تحظر حملات المقاطعة لإسرائيل). والثانية: الموقف الماليزي الصارم برفض استضافة أيّ لاعبين إسرائيليين في بطولة السباحة الدّولية التي تستضيفها ماليزيا هذا العام، وقد كان الردّ الإسرائيلي عبارة عن تعبيرٍ عن السّخط ممزوجٍ بقدر ليس هيّناً من الخوف والقلق الإستراتيجي المسْتَشَفّ من نموّ هذه الجهود وتكرار هذه الحوادث على مدار العقدين الأخيرين.
وفي ظل الانسداد الكبير للمسار السياسي الفلسطيني وحالة التطبيع العربية مع إسرائيل قد يبدو أن حالات نزع الشرعية عن إسرائيل في المسرح الدّولي من طرف العديد من الدّول قد يبدو أحدَ الأسباب التي تُبقي حالةً من الأمل في الدّفع نحو مسارات قد تحقّق بعضاً من الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني.
من أبرز الآثار الإستراتيجية لجهود نزع الشرعية هو إعادة تعريف الصراع وتفكيك الرّواية الصهيونية التي هيمنت على الخطاب الأوروبي والأمريكي.
وبالرّغم من تعدد التعريفات المتعلّقة بنزع الشرعية عن إسرائيل فإن تعريفاً
جامعاً يُقصد به الجهود الرامية إلى عزل دولة الاحتلال ومقاطعتها والضغط عليها
سياسياً واقتصادياً وثقافياً قد يعدّ
كافياً. وتختلف نوايا هذه الجهود تبعاً لمن يروج لها؛ فالبعض يراها أداةً مؤقتةً
للضّغط على حكومة الاحتلال من أجل الانصياع للقانون الدولي وقبول حلّ الدولتين،
ويراها البعض الآخر كوسيلة للضّغط على إسرائيل للانصياع للحقوق الفلسطينية كاملةً،
أو الوصول إلى حالة شبيهة بما حصل في جنوب إفريقيا إثر انهيار نظام الفصل العنصري
وتأسيس دولة ديموقراطية لكلّ من فيها.
ولعلّ ما لفت الانتباه إلى أهميتها هو ردود الفعل الإسرائيلية الهستيرية تجاه هذه الجهود حول العالم، ما أعطى شعوراً عامّاً بأهميتها، وأعطاها زخماً لدى الفواعل الفلسطينية والمناصرين للحقّ الفلسطيني. ودقّت إسرائيل نواقيس الخطر بسبب هذه الجهود بدايةً عقب المؤتمر الدولي في ديربان عام 2001 في جنوب إفريقيا، والذي قرن الصهيونية بالعنصرية، وبعدها إثر حادثة أسطول الحرية "مافي مرمرة" عام 2010، وصفت إسرائيل هذه الجهود منذ بدايتها بـ"جهود نزع الشرعية" (Delegitimizatio efforts) ووسمتها بمعاداة السامية منذ البداية، وخصّصت ميزانياتٍ كبيرةً لمكافحتها، وبذلت جهوداً كبيرةً تحت مسمَّى "نزع الشرعية عن نازعي الشرعية" (delegitimizing the delegitimizers) ومحاصرتهم والتضييق عليهم على المستوى الشخصي في أوروبا وأمريكا الشمالية.
ويُخطئ البعض في حصْر هذه الجهود بحملة المقاطعة (BDS)، ولعلّ مردّ ذلك يكمن في النجاحات الواسعة التي حققتها الحملة على المستوى الثقافي والأكاديمي والإنجازات الجيدة على المستوى الاقتصادي، والتي كان من ارتداداتها قرار البرلمان الأيرلندي آنف الذكر. ورغم كل المحاولات الإسرائيلية لكبح جماح هذه الحملة فإنها تتسع يوماً بعد يوم، وينضمّ لها بشكلٍ متزايدٍ العديد من الاتحادات الطلابية والشبيابية وحتى المجالس البلدية في العديد من الدول الأوروبية.
ردود الفعل الإسرائيلية الهستيرية تجاه جهود نزع شرعيتها حول العالم أعطى شعوراً عامّاً بأهميتها، وزخماً لدى الفلسطينييين والمناصرين للحقّ الفلسطيني.
ورغم أهمية هذه الحملة فإنه ينبغي الإشارة إلى أهمية الجهود الرسمية الفلسطينية (وتلك التي تقوم بها الدول المناصرة؛ ماليزيا قبل أيام مثلاً) كذلك في عزل حكومة الاحتلال الإسرائيلي وتطويقها والضغط عليها عبر التوجه للمؤسسات الدولية، ولعلّ أبرز هذه الخطوات كان مجرّد التوجّه لنيل اعتراف الأمم المتحدة بدولانية فلسطين وقبولها عضواً فيها.
إضافةً لذلك فقد كان للمؤسسات العاملة في الدبلوماسية الشعبية -وحملة المقاطعة مثال لها- دورٌ كبيرٌ في الدّفاع عن الرواية الفلسطينية، وعزل الرواية الصهيونية، علاوةً على تحشيد الدّعم للقضية.
ومن أمثلة أدوات جهود التطويق والعزل ما يُسمَى بـ"الاشتباك القانوني" (Lawfare) ويُقصَد به تفعيل الأدوات القانونية والحقوقية من محاكم ومؤسسات محلية وإقليمية ودولية لإدانة دولة الاحتلال وممثليها ودبلوماسييها دولياً ومحاصرتها، وهناك مساحات شاسعة يصعب الاستفاضة فيها في هذه السطور القليلة.
من الصّعب الآن تقييم أثر هذه الجهود ومدى نجاعتها في عزل إسرائيل ونزع الشرعية عنها؛ فهناك الكثير من يجادل بأن "ما أُخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بها" ، ورغم أني أقرّ بوجاهة هذا الرأي، إلى حدٍّ كبير، فإنه ينبغي الاعتراف بأن معادلة الصراع مع إسرائيل لا تخضع لمنطق القوة العسكرية فقط، فإسرائيل تنتمي إلى منظومة من الدّاعمين الدّوليين الذين يدّعون تبنيهم لمجموعة من القيم التي تتنافى مع سلوك إسرائيل العنصري ضدّ المدنيين الفلسطينيين وانتهاكها الممنهَج للقانون الدّولي، وهذا يولّد مساحة مهمة للعمل على إما: قطع هذه الارتباطات -وهذا صعب في الوضع الراهن- أو على الأقل التقليل من متانة هذا الارتباط بما يسمح بالمناورة بهامش أوسع.
إن قياس أثر جهود نزع الشرعية عن إسرائيل لا يكون بالنظر بشكلٍ منفرد إلى إلغاء مباراة رياضية هنا أو طرد بعثة دبلوماسية هناك أو حتى إصدار مذكرة اعتقال بحق أي من عسكريي الاحتلال أو سياسييه، بل بالنظر إلى المشهد الكلّي المتمثّل بالغزلة السياسية لدبلوماسيي إسرائيل، وعزلتها الثقافية والاقتصادية الآخذه في الاتساع.
كُلفة دعم إسرائيل تزداد يوماً فيوماً بالنسبة للحكومات الأوروبية، تماماً كما حصل مع نظام الأبارثايد في جنوب إفريقيا.
وبالتوزاي مع ذلك، علينا ألا ننسى أن من أبرز الآثار الإستراتيجية لهذه الجهود هو إعادة تعريف الصراع وتفكيك الرّواية الصهيونية التي هيمنت على الخطاب الأوروبي والأمريكي، إن هذه الجهود تعيد توصيف الواقع على حقيقته على أنه صراعٌ بين أصحاب الأرض المطالبين بحقوقهم الأساسية والرافضين لأن يكونوا مجرّد عبيد، وبين المستعمر المتغطّرس الذي يظنّ أنه فوق القانون.
وختاماً، يكمن جوهر هذه الجهود في أنها تضربُ العمق الدّولي لدولة الاحتلال- والذي لولاه لما تغطّرست بهذا الشكل- ويجعل من دعمها أمراً مكلِّفاً على الصعيد الأخلاقي والانتخابي.
صحيحٌ أن الدول لا تبني تحالفاتها على مجرّد القيم، إلا أن كُلفة دعم إسرائيل تزداد يوماً فيوماً بالنسبة للحكومات الأوروبية، تماماً كما حصل مع نظام الأبارثايد في جنوب إفريقيا.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.