مضت الآن 100 عام تقريباً منذ أن بدأت فكرة "الشرق الأوسط" الحديث في التبلور، وذلك بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بسبب تأثير الحرب العالمية الأولى. ومثَّل ظهور الدولة القومية نموذجاً بديلاً أسفر عن بداية عهدٍ جديد في تاريخ البشرية، عهدٌ كان من شأنه أن يعكس قمة التقدم البشري، ويفصل الأخلاق الدينية داخل النظام السياسي في هيئة سياسات علمانيةٍ، ويشكّل كلّياً الهوية القائمة على اللغة والعرق والحدود الجديدة التي يعيش فيها مواطنو الدولة القومية.
وقد أكَّد بعض المؤرخين المستشرقين أنَّ "السقوط" العثماني هو السّبب الذي جعل الدولة القومية نتيجةً حتمية للخروج من تحت أنقاض العالم العثماني. وبتسهيلٍ من القوى الأوروبية الساعية وراء مصلحتها الخاصة، أنشأت الدول الحديثة برنامجاً لبناء دولٍ قومية سعياً للخروج من الهزيمة المهينة على أيدي قوات الحلفاء.
ولم تعد "ولايات" الإمبراطورية العثمانية ولا الهويات الدينية للمواطنين هي العلامة الرئيسية لانتماء الأفراد، فقد حلَّ محلّ هذه الولايات والهويات مجتمعٌ قومي مُتخيَّل أنشئ حديثاً داخل حدود الدولة القومية العلمانية الجديدة وقواعدها. وإذا كان للدول التي تشكلت حديثاً آنذاك على طابع الدول التي انتصرت عليها أن تنجح في محاكاة نموذج الدول القومية الموجود في الدول الغربية الاستعمارية، فمن الضروري الخروج من إطار الدولة العثمانية، في الوقت الذي كانت فيه فكرة الإمبراطورية تتعرَّض للازدراء لمصلحة كياناتٍ أصغر وأكثر استقلالية.
لم تعد "ولايات" الإمبراطورية العثمانية ولا الهويات الدينية للمواطنين هي العلامة الرئيسية لانتماء الأفراد فقد حلَّ محلّ هذه الولايات والهويات مجتمعٌ قومي مُتخيَّل.
في هذا السياق، يُذكر أنَّ العديد من الإمبراطوريات الشاملة (متعددة الأعراق والأديان واللغات)، مثل الإمبراطورية العثمانية، اندثرت وحلّت محلها دولٌ قائمة بذاتها، في الوقت الذي كان فيه مؤسسو تلك الدول الجديدة يقولون إنَّ التقدم ميزةٌ رئيسية للحداثة ويستخدمون الأنظمة التعليمية وآلات الطباعة، للإشارة إلى أن الدول الجديدة ستبقى إلى الأبد باعتبارها ذروة الحضارة الإنسانية.
ولكن بعد مرور 100 عام، هل أصبح الحال هكذا بالفعل؟
يتساءل المعلقون الآن باستمرار عمّا إذا كان نموذج الدولة القومية، في منطقة نهضت بسرعة من تحت أنقاض الإمبراطورية العثمانية، بدأ حالياً في إظهار علامات التراجع أو حتى الاحتراق.
إذا كان الأمر كذلك، يجدر التساؤل عن الإشارات التي تعكس هذه الأفكار؟ وهل من الممكن التفكير في مستقبلٍ بديل يتجاوز نموذج الدولة القومية؟
العولمة
في الوقت الذي صارت فيه التكنولوجيا تملي علينا حياتنا، وأصبح الوصول إلى الموارد أسهل، وصارت القدرة على السفر أكثر سلاسة، بدأت المواطنة المعولمة تحلّ تدريجياً محل الهوية القومية.
أصبحت الولايات المتحدة كذلك، مكتسيةً مظهر الإمبراطورية، باعتبارها القوة
العظمى الوحيدة في العالم. إذ بدأ تصدير المُثُل والثقافة والرموز ونموذج النزعة
الاستهلاكية الأمريكية في خلق تماثلٍ في الأنماط العالمية للكينونة، وهو ما يتعارض
مع خصوصية الهوية القومية.
إحدى النتائج الثانوية للرأسمالية العالمية، التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية تشكيلها بطابعها الخاص، وتأثير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أسفرت عن أنَّ معظم سكان العالم قد بدأ التطبُّع بهوياتٍ قائمة على الممارسات باعتبارهم مستهلكين وليسوا مواطنين مخلصين لأي دولة معينة. وبذلك، يُصبح تفرُّد الولايات المتحدة نابعاً من أنَّها ليست مجرد أمّة بل فكرة.
طغت العولمة تدريجياً على الهويات الحصرية التي صاغتها كل دولة قومية وأسفرت أمركة العالم عن مجتمعٍ عالمي من أفرادٍ يفتقرون إلى أي شخصيةٍ فردية حقيقية.
بالإضافة إلى ذلك، تمكنت الشركات التكنولوجية التي تتخطى حدود القومية مثل أمازون وفيسبوك وجوجل وأبل، تمكّنت من المناورة خارج نطاق السلطة القضائية لأي دولة قومية معينة. أمّا على مستوى الدولة وعلى المستوى الإنساني، فقد طغت العولمة تدريجياً على الهويات الحصرية التي صاغتها كل دولة قومية. وأسفرت أمركة العالم عن مجتمعٍ عالمي من أفرادٍ يفتقرون إلى أي شخصيةٍ فردية حقيقية، ويُظهرون بدلاً من ذلك تشابهاً عالمياً على حساب الذات القومية.
ومع فقدان الشعوب الثقة في السياسة القومية ومؤسساتها، سواء وسائل الإعلام
أو الأنظمة التعليمية أو الحكومات، يمكن القول إنَّ سياسات القرن الماضي بدأت تغرق
في التطورات السريعة للقرن الحادي والعشرين.
الهجرة الجماعية
صحيحٌ أنَّ القطارات والطائرات والسيارات سهَّلت عملية النقل على المليارات
من النّاس، خاصّةً مع تجلِّي طبيعة العالم الاستهلاكي في السياحة العالمية. وغيَّر
السفر كل شيء، بينما أصبحت المدن الحية وجهاتٍ سياحية شهيرة.
لكن هناك سفرٌ من نوع مختلف كان له تأثير أكبر في الهوية الوطنية والانتماء: الهجرة الجماعية. ولو كانت الحرب العالمية الأولى قد أنهت جميع الحروب بالفعل، لاستطاع المرء في عام 2018 أن يقول بكلّ أمانة إنَّ ذلك ليس صحيحاً. فمنذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وحربها اللاحقة على الإرهاب، ثم ظهور ما يسمى الربيع العربي، مرت المنطقة بأزمةٍ تحدَّت فكرة الدولة القومية تحدياً لا مثيل له في تاريخ المنطقة الحديث.
وفي ظل الانهيار المحتمل لهياكل الدولة والشبكات القائمة في العراق وسوريا وليبيا واليمن، والتخلِّي عن احتمالية قيام دولة فلسطينية، يجد المرء نفسه مجبراً على التساؤل عن مدى فشل نموذج الدولة القومية في المنطقة.
وإذا كانت بعض دول الخليج ومصر تلجأ إلى مركزيةٍ أشدّ في منطقةٍ تطلُب فيها الشعوب قدراً أكبر من اللامركزية، فهل هذا يعني أننا نشهد نقطة تحوُّل في تاريخ الدولة القومية في المنطقة؟
فقد أدت الهجرة الجماعية إلى إنشاء مناطق غير واضحة الحدود والشعوب. الشعب السوري مثلاً تسرَّب إلى تركيا والأردن ولبنان وأوروبا. وفي باكستان، فعلت الحرب الأفغانية نفس الشيء. بينما قد تضطر العديد من الدول إلى إعادة التفكير في إستراتيجياتها المتعلقة بالمناطق الحدودية.
صحيحٌ أنَّ الدول ذات الموارد المحدودة قد تنظر حالياً إلى المهاجرين على أنَّهم أعباء على مواردها، لكنْ، في الواقع، تبقى المشكلة الأهم هي الصراع الجدلي بين الشعوب التي توجد بينها قواسم مشتركة، الأمرُ الذي سيتحدى حتماً الهوية القومية مع تحوُّل التصوُّرات القائمة عن الوطن والدولة المضيفة إلى أمورٍ مبهمةٍ بالنسبة للجيل القادم.
إنها قضية مسلمين
بالرغم من أنَّ قضية الهجرة العالمية ليست مقصورة على فئةٍ بعينها، لكنَّ العالم صار يعتبرها قضية تتعلق بالمسلمين.
فبالنسبة لأوروبا، أثبتت هجرة المسلمين أنَّها تمثل مشكلةً للدول القومية الأوروبية كذلك، ولكنْ بتحدياتٍ مختلفة. فكلما زاد عدد المسلمين في أوروبا، تأجَّجت معاداة المسلمين.
فنظراً إلى عدم رغبة الدول الأوروبية في التطور بعيداً عن تصورات الحربين العالميتين التي أعادت أوروبا تشكيل صورتها وفقها، يُعتبر المسلم خارج هذا المدار لتلك الدول، وهو مدارٌ يتمثّل في صورة الدولة الصارمة والهوية الاجتماعية. وهذا لا يعني أنَّ المسلمين لا يمكن أن يكونوا جزءاً من المجتمع الأوروبي، لكنَّهم إما يضطرون إلى، أو يُجبَرون على، "التحضُّر" للتوافق مع الهوية المُقيِّدة الخاصة بكل دولة قومية.
خلقت الأيديولوجيات "الإسلامية" جدلاً كبيراً بشأن مدى قابلية مشروع الدولة القومية للتطبيق فالبعض يرفض نموذج الدولة القومية رفضاً تاماً.
ونتيجةً لذلك، يُقدَّم زخم الشعبوية اليمينية المتطرفة في الأساس على أنَّه تيارٌ مضاد للإسلام والمسلمين، بينما يُنظر إلى المسلمين الأوروبيين بوصفهم الآخرين الأغراب داخل القارة.
وبالنسبة للدول القومية الإسلامية، فقد خلقت الأيديولوجيات "الإسلامية" جدلاً كبيراً بشأن مدى قابلية مشروع الدولة القومية للتطبيق، فالبعض يرفض نموذج الدولة القومية رفضاً تاماً، بينما يحاول آخرون العمل ضمن حدوده.
ومنذ انهيار العالم العثماني، وجد الخطاب السياسي والفكري الإسلامي صعوبةً كبيرة في الإجابة على سؤال الدولة القومية.
ومع ذلك، ففي ظل فشل "الإسلاميين" في كسب شعبيةٍ كبيرة منذ ما يسمى بالربيع العربي، يمكن افتراض أنَّ الدولة القومية تستطيع تنفُّس الصعداء في عالم ما بعد الإسلاموية، باعتبار أنَّ العدو الداخلي "الأبدي" مُهمَّشٌ الآن.
حينما نلقي نظرة متفحصة أقرب، يتضح أنَّ الغزو الأمريكي للعراق كان هو المحفز لإلغاء المركزية في المنطقة، وإيقاظ شعورٍ بالاستفسار عن البدائل المحتملة. وفي الوقت الذي تتعرَّض فيه الأحزاب السياسية الدينية الحديثة في البلدان الإسلامية لصعوباتٍ كبيرة، سيكون من السذاجة افتراضُ أنَّ الخطاب يقتصر على الحركات التي تنشر أفكار النهضة الإسلامية، فيما يواصل المسلمون البحث عن إجاباتٍ في الإسلام بخصوص هويتهم وسياستهم.
وإذا كنا نشهد تحولاً لا أحد يعرف مصيره في نموذج الدولة القومية، فهل من المنطقي إنشاء دول قومية جديدة؟
بالإضافة إلى ذلك، فالسؤال الأهم هو هل المنطقة، بعد 100 عام، بدأت تظهر عليها علامات التعب في ما يتعلق بالعجز عن توفير الأمن والاستقرار اللذين وعدت بهما الدول القومية، منذ رسم الحدود الناجمة عن اتفاقية سايكس بيكو؟
وكما نشأت الدولة القومية سريعاً من تحت أنقاض الإمبراطورية العثمانية، فهل نشهد سقوطها سريعاً؟ مع العلم أنَّ ذلك ليس بالأمر الجديد في تاريخ البشرية.
وهل يمكن أن نشهد التراجع الحتمي لنموذج الدولة القومية في المنطقة؟
المقال مترجم عن موقع TRT World