بعد ثلاثين سنة من الاحتلال والتطهير العرقي والدمار والصلف الذي تميزت به سياسات أرمينيا، وبعد أن أدار المجتمع الدولي ظهره للصراع وما خلفه من مآسٍ إنسانية لأكثر من مليون مهجَّر ولاجئ من الأراضي المحتلة، ونحو 400 ألف تم طردهم من داخل أرمينيا، اقتنعت القيادة الأذربيجانية أن المجتمع الدولي لن يتحرك لمواجهة الاحتلال وطيّ صفحته، وليس أمام القيادة الأذربيجانية إلا الاعتماد على النفس أولاً.
اعتمد مجلس الأمن الدولي عام 1993 أربعة قرارات كلها تدعو إلى وقف العمليات العسكرية والانسحاب الفوري دون قيد أو شرط من جميع الأراضي التي احتلتها أرمينيا في الصراع الأخير واحترام سيادة وسلامة أراضي أذربيجان وإعادة المهجرين إلى ديارهم.
لكن هذه القرارات بقيَت حبراً على ورق. تدخلت منظمة الأمن والتعاون الأوروبية في الوساطة فأنشأت "مجموعة منسك" المكونة من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، لكن مجموعة منسك دخلت في مرحلة الجمود السياسي بعد توقُّف العمليات العسكرية.
لم تُعِر أرمينيا أي اهتمام لقرارات مجلس الأمن الأربعة مستندة إلى الدعم الروسي والفرنسي والصمت الأمريكي.
المجتمع الدولي كان حينذاك مشغولاً بصراعات عديدة تفجرت بعد تفكُّك الاتحاد السوفييتي وانهيار الكتلة الاشتراكية مثل جورجيا وشيشينيا ويوغوسلافيا السابقة وهايتي والعراق والصومال وكمبوديا وناميبيا وغيرها الكثير.
وإذا كان هناك جرح لا ينزف دماً، فإنه لا يثير حركة المجتمع الدولي ولا يظهر على شاشة الأمين العامّ ولا أحد يعيره أي انتباه رغم أن الورم قد يتفاقم وينفجر بشكل أكثر إيلاما إن لم يتمّ علاجه.
لذلك أخذت القيادة الأذربيجانية الأمور على عاتقها، وبعد عدد من الاستفزازات والمواجهات الجزئية، قررت أن تقوم بتحرير أراضيها المحتلة مستندة إلى جيشها الذي كان ينتظر هذه اللحظة ووقوف الشعب بكامله خلف القيادة والجيش.
أعلنت الحرب يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 2020 واستمرت 44 يوماً وانتهت بالظفر الحاسم وتوقيع اتفاقية الاستسلام يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 في موسكو بحضور الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
زيارة إقليم قره باغ
بدعوة من وزارة الخارجية الأذربيجانية وصل وفد صحفي مكوَّن من سبعة صحفيين معتمَدين بالأمم المتحدة بهدف الاطّلاع على أحوال البلاد بعد تحرير إقليم قره باغ في ما يسمّيه الأذربيجانيون حرب قره باغ الثانية.
قام الوفد بزيارة شاملة لإقليم قره باغ شملت منطقة أقدام وشوشة وفزولي والقرية الذكية في زغيلان. ثم عاد إلى العاصمة ليلتقي العديد من المسؤولين التنفيذيين والإعلاميين وأعضاء البرلمان ومراكز البحث والخبراء.
والانطباع الأولي الذي تَكوَّن لدى الوفد منذ وصوله إلى مطار حيدر علييف في العاصمة الأذربيجانية باكو هو أن البلاد تعيش مرحلة تنمية شاملة حيثما نظرت أو اتجهت، بداية من المطار الحديث والطريق السريع إلى وسط العاصمة إضافة إلى المباني الحديثة والأسواق الجديدة والمراكز الثقافية والملاعب الرياضية وحماية المعالم التاريخية وترميم المواقع الأثرية.
في الأفق ترى عشرات الرافعات تعلو فوق الأبراج والمباني الشاهقة تعطيك الانطباع أن البلاد عبارة عن ورشة عمل وبناء وتعمير تؤكّد أن أذربيجان ستكون جوهرة آسيا الوسطى خلال السنوات القليلة القادمة.
وأما زيارة قره باغ التي استمرت ثلاثة أيام كاملة فقد تركت لديّ مجموعة من الانطباعات ألخّصها في النقاط التالية:
أولاً: حجم الدمار في إقليم قره باغ شيء مذهل؛ إنه دمار شامل طال جميع القرى والمدن والبيوت والمباني والمؤسسات والفنادق والقصور القديمة بلا استثناء.
نُبشت القبور وحُطّمت المستشفيات والمدارس والمؤسسات العامة ونُهبت كلها. ومن بين 67 مسجداً تم تدمير 65، وبعضها استُخدم حظائر للحيوانات. وقد تأكد لنا أن هذا الدمار يعني أن أرمينيا كانت تعرف أن وجودها مؤقت وأنها لا بد راحلة.
ثانياً: من أكثر التحديات التي يواجهها الإقليم انتشار الألغام الأرضية التي خلّفَتها أرمينيا وراءها والتي تزيد على مليون لغم أرضي ما زالت تحصد الأرواح البريئة كل يوم، بينما ترفض أرمينيا تسليم خرائط الألغام، ولا يكاد يمر أسبوع دون سقوط ضحية جديدة.
فقد قُتل أكثر من 253 مدنياً بعد التحرير وأصيب المئات من جراء انفجارات الألغام المضادة للأفراد.
أنشأت الدولة وكالة متخصصة لتطهير الألغام تُدعى "أناما" للقيام بعمليات التمشيط والتطهير. وقال مسؤول في الوكالة: "نحتاج إلى 25 سنة لعملية التطهير الشاملة للألغام بأنواعها كافة وميزانية لا تقلّ عن 3 مليارات دولار"، وخطورة الألغام الأرضية تكمن في تأخير عملية إعادة اللاجئين وتوطينهم في ديارهم.
ثالثاً: يشهد إقليم قره باغ عملية إعادة إعمار شاملة تجري بسرعة على قدم وساق. لكن هذه العملية الكبيرة لا تكتمل إلا بتطهير البلاد تماماً من أنواع الألغام كافة.
وقد زرنا عيِّنة من المشاريع التي تشير إلى عملية إعادة الإعمار مثل المنطقة الصناعية الكبرى في أقدام، ومطار فزولي الذي أُنجِزَ خلال ثمانية آشهر فقط بتعاون تركي، وبدأ يستقبل الرحلات من أنقرة وإسطنبول.
كما اطّلعنا على مشروع إنشاء مطارين آخرين في الإقليم سيُنجَزان قبل نهاية عام 2025. وأكثر ما أثار إعجابنا مشروع "القرية الذكية" الذي أُنجزَ في بلدة زانغلا. تضمّ القرية بيوتاً حديثة ومرافق شاملة ومدرسة نموذجية وعيادات مجهزة وحدائق ونوافير مياه، ويستخدم المشروع الطاقة الشمسية بشكل رئيسي، كما يتم تدوير المياه العادمة والبلاستيك والكرتون. وحتى الآن تم استقبال 200 من المهَّجرين، وسيتم توسيع العدد تدريجياً.
السلام فالاستقرار فالنهضة
رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان صمد سيدوف، قال للوفد إن "هدف البلاد الاستراتيجي الآن هو السلام. بدون سلام واستقرار لا نستطيع الانطلاق الشامل نحو إعادة بناء ما دمرته الحرب".
وُقّعَت اتفاقية بين الطرفين يوم 10 نوفمبر 2020 مدتها خمس سنوات لا تُجدَّد إلا بتوافق الطرفين. من المفروض أن تقوم أرمينيا بتسليم بقية الجيوب التي ما زالت تحت سيطرتها لأذربيجان بإشراف الوسيط الروسي كما فعلت يوم 26 أغسطس/آب عندما انسحبت القوات الأرمينية من منطقة "لاتشين" وسلمتها للقوات الأذربيجانية بهدوء وارتفع عليها علم أذربيجان.
وقال السيد سيدوف موضحاً إن ما تريده أذربيجان من أرمينيا الآن ثلاثة أمور:
أولاً توقيع اتفاقية سلام شاملة قبل نهاية موعد اتفاقية وقف إطلاق النار الحالية التي تنتهي يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2025. ثانياً ترسيم الحدود بين البلدين بشكل نهائي ومعترَف به. أخيراً إنهاء أي مطالبات أو ادعاءات بملكية أراضٍ في البلد الآخر إلى الأبد، وأن لا يعود أي طرف إلى التحريض وادعاء الأحقية في أرض ليست له، وهو ما قد يشير إلى عدم الاعتراف ضمنيّاً بالحدود الدولية المعترَف بها.
بعد ضمان هذه البنود في اتفاقية سلام شاملة تبدأ عمليات التنمية الإقليمية الشاملة التي تساهم في تطوير العلاقات الودية بين الأطراف جميعاً والعمل على فتح الممرات الاستراتيجية التي تربط أذربيجان وأرمينيا وإيران وجورجيا وروسيا وتركيا في مشاريع تنمية كبرى تحوّل المنطقة كلها إلى بينيلوكس جديدة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.