القضية الفلسطينية بعد عام من الحرب على غزة
مع إنهاء الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة عامها الأول، تعيش القضية الفلسطينية واحدة من أكثر اللحظات الحرجة عبر تاريخها، إذ أعادت الحرب التي اندلعت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 التأثير بشدة في المشهد الجيوسياسي إلى المنطقة بأسرها.
القضية الفلسطينية بعد عام من الحرب على غزة / صورة: AA (AA)

كما امتد تأثيرها عالمياً مصحوباً بتحولات صاخبة تجاه الصراع في الموقف الدولي على المستويين الرسمي والشعبي، فيما كان الثابت الأهم في كل تلك المتغيرات هو خطأ حسابات القيادة اليمينية المتطرفة في إسرائيل في مقارباتها تجاه مآلات الوضع القائم الذي حاولت فرضه على الفلسطينيين وفشل كل المحاولات الإسرائيلية لتهميش القضية الفلسطينية وعزلها إقليمياً ودولياً.

يوم هز العالم

كان يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023 واحداً من أربعة أيام في ذلك العام وصفتها مجلة فورين بوليسي الأمريكية بأنها هزت العالم، وجعلت ذلك العام بمثابة نقطة تحوّل جذريّ في الجغرافيا السياسية، وبداية انفجار النظام الدولي الذي تقوده أمريكا.

ليس مفاجئاً اعتبار السابع من أكتوبر/تشرين الأول، الذي أعلنت فيه حماس انطلاق عملية طوفان الأقصى، إحدى أكثر اللحظات دراماتيكية في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، عندما اندفع مئات المقاتلين إلى داخل حدود الأراضي المحتلة عام 1948، تبعهم الآلاف من الغزيين الذين وطئت أقدامهم -ربما للمرة الأولى- تلك الأراضي، وقد جاءت تلك العملية في سياق كانت فيه القضية الفلسطينية في أسوأ ظروفها إقليمياً ودولياً، إذ انفردت دول عربية بإقامة علاقات تطبيع مع إسرائيل، وكانت تستعد دول أخرى لإبرام اتفاقات جديدة مماثلة، بعيداً عن أي حل شامل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

وقد دفع المشهد الإقليمي والتراجع الحاد للقضية الفلسطينية قُبيل طوفان الأقصى بمستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان إلى وصف المنطقة بأنها أكثر هدوءاً مما كانت عليه منذ عقدين من الزمن، لتثبت الأيام التالية الخطأ الفادح، ليس في حساباته فحسب، بل في حسابات الإقليم وجميع الفاعلين الدوليين المنخرطين بشكل أو بآخر في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

قُبيل الحرب على قطاع غزة كانت القضية الفلسطينية قد فقدت كثيراً من الاهتمام على المسرح الدولي، وقد بدا أن هناك حالة تطبيع مع الوضع القائم الجديد الذي تحاول إسرائيل فرضه بحكم الأمر الواقع المدفوع بدعم أمريكي، وعبّر عنه بشكل واضح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في خطابه خلال فاعليات افتتاح الدورة 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2023، الذي روّج فيه لـ"شرق أوسط جديد" من خلال اتفاق سلام محتمل مع السعودية، مشيراً إلى مقاربته القائمة على إمكانية تجاوز الفلسطينيين من أجل إبرام اتفاقات سلام مع دول عربية، وقد أظهرت الخريطة التي رفعها في ذلك الوقت إسرائيل على كامل حدود فلسطين التاريخية بما فيها الضفة الغربية وقطاع غزة، في إشارة واضحة إلى عدم وجود مكان لحل الدولتين في رؤيته.

في عام 2003 الذي كان ذروة انتفاضة الأقصى ومحاولات التوصل إلى حل للصراع، أقرت استراتيجية الأمن الأوروبية لذلك العام حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بمثابة أولوية استراتيجية للاتحاد الأوروبي، غير أن هذا الالتزام تراجع إلى حدوده الدنيا في استراتيجية الاتحاد الأوروبي العالمية عام 2016 لتكتفي بالإشارة إلى الرغبة في الحفاظ على "احتمال حل الدولتين القابل للتطبيق" وتهيئة الظروف لإجراء "مفاوضات ذات مغزى"، وهو ما عكس حالة التراجع الكبير في أولويات المجتمع الدولي تجاه الصراع، فيما واصلت حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل سياساتها التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية ومن بينها محاولات ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية لإسرائيل، قبل أن ينقلب الموقف الدولي رأساً على عقب بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

"الطوفان" والحرب .. مكاسب استراتيجية

كانت معركة طوفان الأقصى بمثابة تذكير للعالم على فشل جميع الرهانات على إمكانية حرمان الفلسطينيين من حقوقهم، وتجاهل مصالحهم بشكل صارخ، وبينما حطمت العملية أسطورة عدم قابلية الجيش الإسرائيلي للهزيمة، فقد كشفت في ذات الوقت عن زيف محاولات تهميش القضية الفلسطينية، وكما أشارت مجلة ذا نيشن فقد قدم السابع من أكتوبر/تشرين الأول تذكيراً بأن مقاومة الفلسطينيين تمثل "شكلاً من أشكال حق النقض على جهود الآخرين لتحديد مصيرهم"، إذ أثبت الفلسطينيون في ذلك اليوم أن محاولات تجاوزهم عبر اتفاقيات التطبيع وسياسات الضم الزاحف لن تؤدي إلا إلى مزيد من عدم الاستقرار الذي ستمتد آثاره، ليس إلى المنطقة فحسب، بل إلى العالم كله.

لقد أعادت تلك العملية وما تلاها من جرائم على نطاق واسع ارتكبتها إسرائيل بحق سكان قطاع غزة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العالمي، وعادت من جديد تطرح المقاربات المتعلقة بالقضية الفلسطينية وحل الدولتين، بعد أن وجد العالم نفسه بين ليلة وضحاها أمام حقيقة فشل الرهانات الإسرائيلية والأمريكية على تجاوز الفلسطينيين وإمكانية نزع السياق السياسي والقانوني في التعامل مع الحالة في فلسطين على اعتبارها أزمة إنسانية وليست قضية شعب وحقوق لا غير قابلة للتصرف.

وبطبيعة الحال فإن واحدة من أبرز تداعيات الحرب التي تأخذ اعتبارات قصوى في مطالب الأطراف المختلفة وقف إطلاق النار، تمثلت في ما يمكن اعتباره التحام شبكة إقليمية في الحرب مع إسرائيل إسناداً لقطاع غزة، ابتداء من جبهة لبنان وامتداداً إلى العراق واليمن ووصولاً إلى إيران، ما يجعل إنهاء الحرب على غزة مسألة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، لأن تداعيات استمرارها تعني احتمالية اشتعال المنطقة بنار الحرب وعدم بقائها محصورة في غزة.

غير أن التداعيات الميدانية والإقليمية لم تطغَ على الإنجازات الهائلة التي حققها الفلسطينيون خلال الحرب، بدءاً من التغطية الإعلامية الدولية للحرب على قطاع غزة التي شهدت تحولاً هاماً عندما لم تعُد المؤسسات الإعلامية الكبرى تعتمد حصراً على الرواية الإسرائيلية، مضطرة على وقع الانتهاكات القاسية في غزة إلى تقديم صورة أكثر توازناً من خلال تسليط الضوء على مأساة الفلسطينيين والانتهاكات الإسرائيلية الواسعة في أنحاء الأراضي المحتلة، فيما كانت الرقابة الشعبية للجماهير، خصوصاً في الجنوب العالمي وجيل الشباب في الغرب، عاملاً مهماً في دفع وسائل الإعلام الكبرى المنحازة لإسرائيل إلى التراجع خطوات إلى الوراء في دعمها الإعلامي لإسرائيل.

واحد من أبرز المكتسبات الهامة للحرب في غزة هو تقويض مسار التطبيع مع إسرائيل وتجميده إلى أجل غير مسمى، بعد أن أصبح المزاج الشعبي في العالمين العربي والإسلامي أكثر عدائية تجاه إسرائيل، وإدراك الجميع عدم إمكانية تجاوز الفلسطينيين من خلال اتفاقات تطبيع ثنائية.

كما كان الجانب القانوني واحداً من أكثر الساحات نشاطاً بعد الحرب، عندما أصبحت إسرائيل متهمة أمام محكمة العدل الدولية للمرة الأولى في تاريخها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، ثم طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يؤاف غالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال الحرب على قطاع غزة، كما أصدرت محكمة العدل الدولية في يوليو/تموز من هذا العام رأياً استشارياً يُدين استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ويعتبره احتلالاً غير شرعي.

المكاسب الفلسطينية امتدت بصورة خاصة إلى الجانبين السياسي والدبلوماسي، عندما أعلنت في مايو/أيار ويونيو/حزيران الماضيين كل من إسبانيا والنرويج وأيرلندا وسلوفينيا وأرمينيا اعترافها بدولة فلسطين، ليرتفع بذلك عدد الدول التي تعترف بفلسطين إلى 149 من أصل 193 دولة عضواً بالأمم المتحدة، وفي مايو/أيار الماضي أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعم طلب عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، ويمنحها امتيازات إضافية في مشاركتها في أعمال المنظمة الدولية.

تحديات تفرضها آلة الحرب

على الرغم من المكاسب الكبيرة التي حققتها فلسطين إقليمياً ودولياً وفي المحافل المختلفة، فإن واقع الحرب في غزة، وارتفاع مستوى الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس، واستمرار الدعم الأمريكي الواسع لإسرائيل، كلها تشير إلى تحديات كبيرة تواجه الفلسطينيين في زمن الحرب وما بعدها، إذ يواجه قطاع غزة كارثة إنسانية مع أكثر من 42 ألف شهيد، وعشرات الآلاف من الجرحى، ودمار شبه شامل في البنية التحتية هناك، وغياب رؤية واضحة بشأن الجهود المستقبلية لإعادة الإعمار، عدا عن غياب أي أفق لإمكانية إنجاز حل سياسي بضغط دولي، في ظل استمرار الاستيطان ومحاولات ضم الأراضي في الضفة الغربية، إذ يشكل الانقسام الدولي بشأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي المصحوب بغطاء أمريكي للانتهاكات تحدياً كبيراً أمام محاولات إبقاء التركيز الدولي على الحالة في فلسطين لصالح ملفات أخرى مرتبطة بتداعيات الحرب كإنجاز شبكة تعاون أمني إقليمي بقيادة أمريكا وتشمل إسرائيل لمواجهة إيران وحلفائها في المنطقة.

وباختصار شديد، سيبقى يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 يوماً مركزياً في مسار تاريخ طويل من الصراع مع إسرائيل، ولحظة فارقة تؤسس لمرحلة مختلفة تماماً عما قبلها.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي

TRT عربي