في السابق كان يُظن أن الواقع الافتراضي عالم منفصل عن الواقع الحقيقي ودرجة تأثر أحدهما بالآخر ضئيلة ولذلك أسندت إلى الواقع الافتراضي أدبيات التحرر والخصوصية. فخلف الشاشة وعلى الانترنت يمكن للمستخدم أن يفعل ما يشاء دون أن يسفر ذلك عن معرفة حقيقية بطبيعة عمله أو هويته الحقيقية.
ولكن ومع تطور التكنولوجيا ظهر كم كان هذا الاعتقاد ساذجاً، فحجم التداخل والترابط ما بين الواقعي والافتراضي أبعد من نكرانه أو حتى التقليل منه أو من تأثيراته. فلا الخصوصية بقيت محمية بشكل كامل، ولا الهوية حُفظت، ولا الأنشطة بقيت في الزاوية المعتمة. لقد أصبح من الممكن تعقب المستخدم، والكشف عن هويته أو التصرفات الرقمية التي يقوم بها على شبكة الانترنت وفي العالم السيبراني بكل سهولة. بل على العكس، لم تكن الهوية أو حتى الخصوصية مهددة بهذا الشكل في السابق كما هي مهددة الآن، ولم يعد الإنترنت ملجأً للتخفي والانعتاق والتحرر، بل أداة للتعقب والرصد. لم يعد الفضاء الإلكتروني ذلك الفضاء الآمن إطلاقاً، ولم تعد التعاملات فيه بمنأى عن تقلبات الواقع الحقيقي.
أبرز مثال على ذلك ما تتعرض له العملات المشفرة من هبوط مدوٍ في الأيام القليلة الماضي. لقد واصلت عملت الـ Bitcoin المشفرة، وهي أقوى العملات المشفرة على الإطلاق، انخفاضها الحاد حتى يوم الاثنين بعد عطلة نهاية أسبوع صعبة، إذ انخفضت بنسبة 5.2 ٪ ليلامس سعرها حاجز الـ 32940 دولارًا. وبذلك يكون سعرها في السوق قد انخفض إلى أقل من نصف ما كان عليه عند أعلى مستوى له على الإطلاق عند 69000 دولار في نوفمبر/تشرين ثاني من العام الماضي. بطبيعة الحال هذا السقوط ليس حصريًا على Bitcoin، فالعملة المشفرة التي تأتي وراءها بالأهمية وهي Ethereum انخفضت هي أيضاً بنسبة 5٪ من بداية عطلة نهاية الأسبوع لتصل إلى 2440 دولارًا.
لم يكن الانخفاض هو المفاجئ بل حجم الانخفاض وسرعته. فقد تعرضت العملات المشفرة لهذا التذبذب بين صعود وانخفاض في السابق ولكن لم يحدث كل هذا الهلع لدى المستثمرين. هذه المرة الأمر مختلف. فبالإضافة إلى المشكلات الوظيفية كحجم هذه الانخفاض وسرعته، تظهر المشكلات البنيوية والتي ربما هي التي أدت إلى شعور المتخصصين بمستوى عالٍ من القلق.
شاع اعتقاد واسع بأن العملات المشفرة ملاذات اقتصادية منيعة للاحتماء من تقلبات أسواق الأسهم، غير أن الانهيار الأخير لهذه العملات الرقمية أثبت أنها معرضة أيضاً لتقلبات السوق وأنها غير آمنة ويكتنف الاستثمار فيها عديد من المخاطر. ويعود جزء كبير من هذا الانخفاض إلى الاعتماد المؤسسي بين هذه العملات المشفرة وبين الأسواق المالية. وبذلك بدأت هذه العملات التحرك جنباً إلى جنب مع الأسواق المالية.
وللتمثيل على ذلك، قال أرماندو أغيلار، رئيس الاستراتيجيات والأبحاث البديلة في شركة ليدن، وهي منصة الائتمان ومدخرات الأصول الرقمية: "لقد أدرك السوق بشكل عام الارتباط الكبير بين أسعار Bitcoin وأسواق الأسهم العامة. كان لمؤشر S&P 500 و NASDAQ أكبر ارتباط مع Bitcoin بنسبة 0.88٪ و 0.91٪ على التوالي. ارتباط أحدهما بالآخر يعني أنهما ينتقلان بشكل متساوٍ صعوداً وانخفاضاً".
لا يخفى على أحد أن الاقتصاد الدولي يعاني من معدلات تضخم مرتفعة. وفي ضوء هذا التضخم المنفلت، فقد اتخذ معظم المستثمرين نهجاً يتمحور حول الابتعاد عن المخاطرة من خلال بيع الأسهم والعملات المشفرة على حد سواء من أجل تقليل المخاطر. ويوجد توجه نحو الاستثمار بالأصول الأمريكية وذلك إثر رفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة في الأيام القليلة الماضية.
فبعد أن أشار مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى أنه سيرفع أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية يوم الخميس الماضي، وهي أكبر زيادة منذ عام 2000، لمحاربة التضخم، تراجعت العقود الآجلة للأسهم الأمريكية وارتفعت عائدات السندات الحكومية. كما تراجعت الأسهم الأوروبية والآسيوية يوم الاثنين. وقد انخفض مؤشر Stoxx 600 لعموم أوروبا بنسبة 1.5٪ في وقت متأخر من صباح الاثنين، وانخفض مؤشر نيكاي القياسي الياباني بنحو 2.5٪.
إن انخفاض العملات المشفرة تذكير آخر لنا بأن الاقتصاد الدولي يسير نحو أزمة ربما تكون أشد من الأزمة المالية الدولية عام 2008. فالاقتصاد الدولي لم يتعافَ بعد من إجراءات الإغلاق التي تسببت بها جائحة كورونا، حتى صُدم بالحرب الروسية على أوكرانيا، وتهديد سلاسل الإمداد خصوصاً فيما يتعلق بالغذاء والطاقة.
على صعيد آخر ولكن متصل، فإن المشكلة البنيوية للعملات المشفرة لا تقتصر على الجانب المالي أو الاستثماري، ولكن على الجانب التقني أيضاً. ظهر ذلك جلياً على عملة Ethereum أكثر منها على عملة Bitcoin. إذ انخفض سعر Ethereum بسرعة خلال الأيام القليلة الماضية، حيث تم تداولها عند حاجز 2300 دولار يوم الاثنين. انخفاض Ethereum جاء بنسبة 18 ٪ خلال الأسبوع الماضي وسط تراجع كبير في Bitcoin وأسواق الأسهم.
ولكن هناك سبب آخر. فشركة Ethereum تخطط للانتقال من نظام التشغيل (PoW) إلى نظام التشغيل (PoS) والمعروف باسم The Merge الأمر الذي من شأنه أن يجعلها أكثر كفاءة واستدامة للاستخدام على نطاق واسع حسبما يرى ذلك القائمين على الشركة. وقد كشف مطور Ethereum ويدعى Tim Beiko مؤخراً أن نظام The Merge لن يتم طرحه في يونيو/حزيران الجاري كمان كان مخططاً على الرغم من أنه قد يطرح قبل نهاية العام. هذا التأخير، ربما بعث برسالة خشية للمستثمرين على تأثير هذا الانتقال في نظم التشغيل على عمل Ethereum ومدى انتشارها.
في المحصلة يجب التأكيد على أن أسعار العملات المشفرة متقلبة للغاية. هذا يعني أنه من المحتمل أن يصعدوا ثانيةً مثلما انخفضوا. وهذا توجه يقول الخبراء في العملات المشفرة إن على مستثمري هذه العملات الاستمرار في التعامل معه والاستعداد له. لقد بدا بشكل واضح أن سوق العملات المشفرة مؤخراً يتصرف بشكل متزايد مثل سوق الأسهم، فهذا لأنه كان سباقاً وسيبقى كذلك. إن زيادة الاعتماد المؤسسي للعملات المشفرة جعلت سوقها أكثر تشابكاً مع سوق الأوراق المالية، والتي بدورها تأثرت إلى حد كبير بالحرب في أوكرانيا، وارتفاع التضخم، وسياسة الاحتياطي الفيدرالي النقدية التي بدت متشددة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.