تدار البوسنة والهرسك من خلال مجلس رئاسي ثلاثي يضم رئيس المجلس زيليكو كومسيك وهو ممثل الكروات وشفيق جعفروفيتش ممثل البوشناق وميلوراد دوديك ممثل الصرب، وقد تحقق الهدوء نسبيا في المنطقة منذ عام 1995 وكان لتركيا دور رائد في متابعة تنفيذ الهدوء وذلك بالرغم من استمرار التطلعات الانفصالية لدى الصرب الذين يعتقد أنهم ينتظرون الفرصة المناسبة مستفيدين من تدخلات خارجية.
أدت الممارسات السياسية التي قام بها صرب البوسنة منذ منتصف العام 2021 والتي تتعلق تحديداً بالتوجه نحو الانسحاب من المؤسسات المركزية في البوسنة والهرسك إذ أقر برلمان صرب البوسنة قراراً يلزم الحكومة المحلية بالانسحاب من 3 مؤسسات مركزية مشتركة هي الجيش والنظام القضائي والضرائب خلال الأشهر الستة القادمة. وقد هدد ممثل الصرب ميلوراد دوديك في المجلس الرئاسي بانفصال الصرب عن جمهورية البوسنة والهرسك وتأسيس جيش خاص بهم. كما أن دوديك كان من الذين قاطعوا عمل مؤسسات الدولة بسبب رفضه معاقبة من ينكر الإبادة الجماعية إذ انزعج من تشريع جديد سُنّ عن طريق مكتب المفوض السامي، يمكن أن يُعاقَب بموجبه بالسجن أيُ شخصٍ ينكر الإبادة الجماعية التي ارتُكبت.
وبالتأكيد يعيد هذا التوتر وما قد يحمله من تداعيات شبح الحرب الطاحنة التي جرت بين 1992 و1995 وأودت بحياة عشرات الآلاف وبالتأكيد يعتبر شل مؤسسات الدولة أفضل وصفة للفوضى ومن ثم الحرب.
لم تقف تركيا صامتة أمام هذا المشهد، وقد قام الرئيس أردوغان بزيارة البوسنة في أغسطس/آب 2021 حيث التقى مع أعضاء المجلس الرئاسي وعبّر عن موقف داعم للوحدة والحفاظ على التنوع الثقافي في منطقة البلقان وحظي باستقبال كبير من مسلمي البوسنة، وكانت الزيارة بحد ذاتها رسالة على الاهتمام التركي باستقرار البلقان وأن تركيا ستواصل احتضان الصرب والكروات والأرناؤوط والمقدونيين إلى جانب ما أسماهم بأشقائنا البوشناق. وكانت تركيا قد أثبتت ذلك عملياً من خلال إمداد منطقة البلقان بما استطاعت من دعم طبي خلال أزمة كورونا،
وقد أعلن أردوغان نيته دعوة أعضاء المجلس الرئاسي الثلاثي بمن فيهم العضو الصربي دوديك والذي كانت تصريحاته مصدراً للتوتر وقد قام أردوغان بإعلان ذلك رغبة في تغليب الحكمة والحوار. ولكن الحوار لم يأت بنتيجة حتى الآن إذ بدا أن الطرف الصربي متعنت في مواقفه.
كما قدم أردوغان رسالة أخرى ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2021 كان أكثر وضوحاً فأكد أن تركيا ستكون سداً منيعاً أمام تكرار الأحداث المؤسفة في البوسنة والتي وقعت قبل اتفاقية دايتون في عام 1995.
وفي إشارة إلى الدور الخارجي والذي يشجع صرب البوسنة على المسار الانفصالي أكد أردوغان أن تركيا لا تريد أن تتحول البوسنة والهرسك إلى ساحة تنافس للأطراف التي لديها حسابات في المنطقة. ولم يذكر أردوغان من هي الجهات الخارجية ولكن الدور الروسي الداعم لصرب البوسنة يبدو واضحاً إذ أن روسيا هي من ترعى الطرف الصربي وعلى سبيل المثال عارضت روسيا في مايو/أيّار 2021 تعيين الألماني كريستيان شميدت مفوضاً أممياً للبوسنة والهرسك بحجة عدم الالتزام بالتدابير المتبعة أثناء تعيينه ويعتقد أن ذلك مستمد من موقف صرب البوسنة وممثلهم دوديك الذي دعا أيضاً لإغلاق مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة في البوسنة والهرسك. وفي فبراير/شباط 2021 دعت موسكو الممثل السامي للأمم المتحدة في البوسنة والهرسك، فالنتين إنزكو، إلى وقف ما وصفته بالأنشطة التي تعرقل عودة الوضع في هذا البلد إلى طبيعته. وذلك بسبب دعوته البرلمان الصربي لسحب أوسمة قدمت لسياسيين صرب سابقين. بالإضافة إلى ما ذكرناه عن فكرة عقوبة من ينكر الإبادة الجماعية.
لدى روسيا مصلحة في عدم اندماج البوسنة مع المؤسسات الأوروبية أو انضمامها لاحقا للناتو وكذلك الحال لديها مصالح اقتصادية وأمنية هناك ولذا هي ماضية في سياساتها الداعمة للتوجهات الانفصالية للصرب للحفاظ على مصالحها. كما أن صربيا هي الأخرى معنية بالتوتر إذ لا تزال مستمرة بعدم الاعتراف بكوسوفو وقد تصاعدت التوترات في سبتمبر على الحدود بين كوسوفو وصربيا حيث بدأت سلطات بريشتينا في تطبيق إزالة لوحات السيارات الصربية من السيارات التي تدخل كوسوفو واستبدالها بأخرى بصفة مؤقتة وذلك بسبب انتهاء مدة الاتفاقية التي وقعت في 2014. علماً أن شرطة صربيا تزيل لوحات التسجيل من السيارات المسجلة في كوسوفو التي تدخل صربيا.
أما بالنسبة لتركيا فمع استمرار التوتر فقد حرصت على أن ترفع من نبرة رسالتها من خلال إيفاد وزير الدفاع التركي في زيارة إلى منطقة البلقان شملت البوسنة والهرسك وكوسوفو حيث أكد أقار دعم تركيا لاستقرار البوسنة وكوسوفو ودعم تكاملهما مع المؤسسات الأوروبية والأطلسية، وأكد أيضاً أن دعم المحاولات الانفصالية لا تفيد أحداً، وتمثلت الرسالة الأقوى من أقار في زيارته للجنود الأتراك في العاصمة سراييفو وفي خطابه للجنود، أكد على أهمية المهام الموكلة إليهم في البوسنة والهرسك، واصفاً إياها بـ"الشاقة والصعبة". مشيراً إلى أن اهتمام تركيا بالبوسنة والهرسك باعتبارها من دول البلقان يتزايد يوماً بعد يوم.
إن زيارة أقار تحديداً تعطي رسالة بأن تركيا مستعدة للوقوف مع البوسنة وكوسوفو ولن تقبل المحاولات الانفصالية وسوف تتابع التطورات من كثب، وسوف تسعى لمنع اندلاع أزمة ولكنها ستكون حاضرة للتعامل مع كافة السيناريوهات.
ومع أن اللحظة الراهنة تشير إلى أن تركيا تغلب الحوار والحكمة والعمل وفق سياسة خارجية تصالحية وهناك تقديرات أنها لن تلجأ للحلول العسكرية في 2022 فإن هذا قد لا ينطبق بالضرورة على كافة الملفات إذ إن تركيا قد لا تكون متسامحة مع ترتيبات أمنية خطيرة يمكن أن تغير التوازنات في منطقة البلقان، ولعل استعدادها السابق في دعم أذربيجان لم تزل آثاره بعد وقد يستمر لدعم البلقان مع أن قيادة البلد ترجح الحوار والتفاهم على أي سبيل آخر. وعلى كل الأحوال تستفيد تركيا من الموقف الدولي والأوروبي الرافض لفكرة الانفصال وتجدد الحرب الداخلية، ولكنها لن تعتمد على الموقف الأوروبي فحسب.
ما من شك أن التوتر الجاري في البلقان له ارتباطات بالوضع الأوسع للنظام الدولي، والتوترات الموجودة بين روسيا والولايات المتحدة والأزمة الجارية في أوكرانيا إذ ستحاول كافة الأطراف استخدام كافة أوراقها على كامل رقعة الشطرنج الدولية، ويلاحَظ أن تفجر الأوضاع نابع من تقديرات لدى بعض الفاعلين بوجود فرص في الفراغ الدولي الموجود لتثبيت حقائق على الأرض. ستسعى تركيا للحفاظ على موقف متزن ولكن إذا تفاقم التوتر في البوسنة سيكون لها موقف حاسم وقد يكون لهذه التطورات انعكاسات على العلاقات التركية الروسية بسبب دعم تركيا وروسيا لأطراف متناقضة.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.