تسعى تركيا في السنوات الأخيرة، وهي دولة أفرو-أورو-آسيوية جيوسياسياً وتاريخياً، إلى اتباع سياسة خارجية متعددة الأبعاد، وتبذل في هذا الإطار جهداً لضمان حفاظ هذه السياسة على عُمق تاريخي وجغرافي وفلسفي.
ومن هذا المنطلق، ولكي تتسم الجهود التركية في إفريقيا بالاستمرارية، يجب النظر إلى سياسة تركيا الحالية في إفريقيا على أنها "عودة إلى إفريقيا" وليست استكشافاً لها أو انفتاحاً عليها، إذ يجمع تركيا والقارة الإفريقية -وإن لم يكن بالكامل- ماضٍ مشترك تاريخياً وسياسياً ودينياً.
ولا يمكن كتابة التاريخ الإفريقي من دون تركيا، وكذلك تاريخ تركيا من دون إفريقيا، ولو كُتب سيكون ناقصاً، فليس لتركيا ماضٍ دموي في إفريقيا كالدول الغربية الاستعمارية، بل حاربت تركيا مع الأفارقة ضدّ المستعمرين في القارة، ورغبت الدول الإفريقية، التي تحررت من نفوذ الدول الاستعمارية، في العمل مع تركيا لصناعة تاريخ مشترك.
واليوم تجمع تركيا بالدول الإفريقية علاقة على أُسس مربحة للجانبين، كما عبّر عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وفي إشارة إلى العلاقات العميقة بين البلدين، قال رئيس البرلمان التركي نعمان قورتولموش في أثناء استقباله وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف والوفد المرافق له، في سبتمبر/أيلول الماضي: "نحن نعمل من أجل صحوة القارة الإفريقية من جديد، ومن أجل تحقيق قوتها وضمان ازدهارها وسلامها".
وأوضح أهمية التعاون بين البلدين في المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية، مشدداً على ضرورة اتخاذ خطوات أكبر في المضيّ قدماً، قائلاً إن "الارتقاء بالمستوى الحالي لعلاقتنا ينبغي أن يكون هدفاً مشتركاً، امتداداً لما تقاسمناه من ثقافات ومشاعر ومعتقدات وتفاهمات على مر التاريخ".
وبالإضافة إلى ما بين الشعبين الجزائري والتركي من صداقة وأخوة قريبة، فنضال الجزائر التحريري ضد الإمبرياليين له مكانة كبيرة لا تُنسى في قلوب الشعب التركي، إذ تشكل هذه المقاومة الشجاعة مثالاً على كفاح الشعب الإفريقي على مرّ الزمان.
الرؤية التنموية لإفريقيا
أشار قورتولموش إلى أن الإمبريالية الجديدة اليوم لا تختلف عن السياسات التي اتبعها الغرب خلال الفترة الاستعمارية التي قامت على استغلال ثروات القارة واستعباد الشعب الإفريقي، وأدت إلى زعزعة استقرار إفريقيا، وجعلها مكاناً لحروب الوكالة من خلال بعض التنظيمات الإرهابية، وذكر رئيس البرلمان التركي أن نهج تركيا الأساسي تجاه القارة الإفريقية هو "يداً بيد، وذراعاً بذراع، نعمل معاً لازدهار الشعب الإفريقي واستقراره وإثرائه".
من ناحية أخرى، يُطلَق على المساعدات التنموية التي تقدمها الأمم المتحدة والدول الغربية إلى القارة الإفريقية "المعونات الميتة"، لأن تلك المساعدات كانت لسنوات طويلة تنطوي على استراتيجية تحكم على إفريقيا بـ"الفقر المستدام"، فيما للمساعدات التنموية التي تقدمها تركيا من خلال المؤسسات العامة والمنظمات غير الحكومية تأثير في التنمية الاجتماعية في إفريقيا، رغم أن ميزانيتها أقل من مشاريع الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الغربية.
وفي هذا الصدد تنفذ تركيا مشاريع وبرامج تنموية وإنسانية في مجالات مختلفة مع جميع دول القارة تقريباً، تضامناً مع الشعوب الإفريقية، من خلال إقامة بنى تحتية اجتماعية واقتصادية، والمساهمة في إرساء السلام في مناطق النزاع، ومحاولة خلق بيئة اجتماعية واقتصادية تضمن على المدى الطويل عدم احتياج إفريقيا إلى المساعدات، إذ تركز تركيا على النهج المستدام.
وعلى رأس أهداف هذه المساعدات التنموية تقليل البطالة من خلال أنشطة التدريب المهني، وحل المشكلات المتعلقة بالبنية التحتية، وتنمية الموارد البشرية، والحدّ من المشكلات الاجتماعية.
وهذا النهج التطويري الذي يشتمل على البرامج التنموية والتدريبية المشتركة بين تركيا والدول الإفريقية هو الذي سيضمن مأسسة عملية التنمية، فالمشاريع القصيرة الأجل لا تستطيع وضع حلول حقيقية لمشكلات إفريقيا، ولكن منظور التنمية المستدامة الطويل الأجل هو ما سينهض بمستقبل إفريقيا.
وهذه الرؤية التنموية التي تعطي الأولوية للديناميات المحلية مكّنت تركيا من الظهور باعتبارها عنصراً فاعلاً جديداً ضمن هيكل التعاون الإنمائي الدولي.
جهود مستدامة
نُفذ أول برنامج مساعدات تنموية تركية لإفريقيا في 5 يونيو/حزيران 1985، حين أطلقت هيئة تخطيط الدولة في تركيا (SPO) حزمة مساعدات شاملة بقيمة 10 ملايين دولار أمريكي، بهدف بناء القدرات المؤسسية في غامبيا وغينيا وغينيا بيساو وموريتانيا والسنغال والصومال والسودان.
ويوماً بعد يوم تتزايد مساهمة المنظمات الحكومية وغير الحكومية في أنشطة التعاون التنموي التركي في إفريقيا، وبات إعطاء الأولوية لإفريقيا في مساعدات التنمية إحدى السياسات الأساسية للحكومة التركية، وفي هذا الإطار لدى الوكالة التركية للتعاون والتنمية (تيكا) حالياً 22 مكتباً لتنسيق البرامج التنموية في جميع أنحاء إفريقيا.
ومن خلال تلك الجهود استطاعت تركيا أن تمثل نموذجاً في مجال الدبلوماسية الإنسانية في جميع أنحاء العالم، من دون أي أجندة خفية، في كل المجالات تقريباً وخصوصاً قضية اللاجئين.
وتشير التقديرات إلى أن المنح الدراسية التي تقدمها تركيا للطلاب الأفارقة سيكون لها تأثير مضاعف في تعزيز العلاقات التركية-الإفريقية على المدى الطويل، فمنذ عام 1992 قدمت تركيا منحاً دراسية لدرجة البكالوريوس والدراسات العليا والدكتوراه لأكثر من 20 ألف طالب إفريقي، وفي الوقت الحالي يدرس أكثر من 60 ألف طالب إفريقي في مختلف مراحل التعليم بالمدارس والجامعات التركية.
في الواقع تبذل تركيا في سياق الدبلوماسية الإنسانية في القارة الإفريقية جهوداً حقيقية فاجأت حتى الدول الغربية، ويُقدّر الأفارقة تخصيص تركيا ميزانية لتلك المشاريع هي الأعلى عالمياً، نسبة إلى الناتج القومي الإجمالي.
كما يرى الأفارقة أن تركيا دولة صديقة، فهي ليست إحدى الجهات الفاعلة في الإمبريالية العالمية التي تخطط لعودة الاستعمار بكل أشكاله القديمة والجديدة إلى القارة الإفريقية، فعودة تركيا إلى إفريقيا تتمحور حول التعاون والتضامن في إطار الاحترام المتبادل والمساعدات الإنسانية والتنمية، ويدرك الأفارقة هذه القيمة جيداً.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.