ذلك أن تركيا عضو في حلف الناتو، وتمتلك علاقات جيدة مع كل من أوكرانيا وروسيا في التجارة والسياحة والطاقة والغذاء، وحتى قطاع الدفاع.
ومن المعلوم أن تركيا حصلت على أحد أسلحتها الاستراتيجية من روسيا وهو منظومة S-400 كما أنها تزود أوكرانيا بسلاح ذي أهمية عالية في الحرب الحالية وهو المسيرات التركية المسلحة، كما أن الموقع الجغرافي لتركيا على البحر الأسود ومضايق تركيا البحرية الدردنيل والبسفور تجعلها ممراً إجبارياً للسفن الحربية التي تود الانتقال من وإلى البحر الأسود. بالإضافة إلى ذلك تتقاطع تركيا مع روسيا في أكثر من ملف من وسط آسيا إلى البحر الأسود إلى البلقان والشرق الأوسط، وبالتالي سيكون لأي خطوة تركية حسابات شاملة متعلقة بكافة هذه الملفات.
وقد أدركت تركيا هذا الموقف مبكراً لذلك سعى الرئيس أردوغان بإصرار للوساطة بين روسيا وأوكرانيا منذ بدء مؤشرات الأزمة، وحاول دعوة كل من الرئيسين الروسي والأوكراني إلى تركيا، وأجرى بنفسه زيارة عاجلة إلى أوكرانيا، ولكن خيار الحرب فرض نفسه في الأسبوع الأخير من فبراير/شباط 2022.
ومع أن تركيا تتبنى رسمياً موقفاً معارضاً للحرب الروسية على أوكرانيا وتدعم وحدة أراضي أوكرانيا، وبالرغم من خلافها مع روسيا في كل من سوريا وليبيا على وجه التحديد فإنها تحرص حرصاً شديداً على ألا تنزلق إلى مواجهة أي كانت مع روسيا خاصة في الوقت الذي تجري فيه دول حلف الناتو الأخرى والبعيدة جغرافياً عن روسيا مناورات خطابية أو تخطو خطوات منخفضة المستوى من قبيل إغلاق المجال الجوي أو التلويح بعقوبات اقتصادية على روسيا.
وبالإضافة إلى ذلك لا تزال الذاكرة التركية تحتفظ بمواقف دول الناتو معها منذ مواجهتها التحدي الروسي في سوريا منذ العام 2015 والذي وصل إلى مرحلة الصدام في بعض المحطات إذ كان موقف الناتو سلبياً، وبعد ذلك استطاعت تركيا من خلال محادثات مباشرة بين الرئيسين أردوغان وبوتين التفاهم حول عدة ملفات حيوية ثنائية وعلى مستوى المنطقة منها ملف S-400 وبعض العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا.
مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا حاولت أوكرانيا أن تظهر أن الموقف التركي داعم بشكل كامل لكييف كما وجه زيلينسكي رسالة شكر للرئيس أردوغان في 26 فبراير/شباط قبل يومين من إعلان تركيا موقفها لتوحي أن تركيا اتخذت قراراً لمصلحة أوكرانيا بإغلاق مضيق البسفور أمام حركة السفن الحربية الروسية بناء على اتفاقية مونترو مؤكداً أن الشعب الأوكراني لن ينسى لتركيا هذا الموقف.
في الحقيقة كان الخطاب الدبلوماسي التركي المتعلق بالمضايق أكثر ميلاً إلى التوازن فشمل الإخطار التركي جميع الدول المشاطئة وغير المشاطئة بعدم إرسال سفنها الحربية عبر المضايق التركية، ولم يكن موجهاً نحو روسيا بشكل مباشر، كما أكد وزير الخارجية التركي أنه إذا لم تكن تركيا طرفاً في الحرب فليس لديها صلاحية منع سفن الدول المتحاربة بالعبور، كما جرى التأكيد أن "الاتفاقية لا تحظر عبور السفن الحربية العائدة إلى قواعدها في البحر الأسود". وهذه النقطة من شأنها أن تمنع إحداث توتر بين روسيا وتركيا حول بعض السفن الروسية العائدة إلى قواعدها. فضلاً عن أن روسيا كانت قد سحبت جزءاً من سفنها في البحر المتوسط إلى البحر الأسود قبل بدء الغزو مما سيجعل قرار الإغلاق أقل أهمية من ناحية التأثير على روسيا.
ومن الواضح أيضا أن القرار التركي قد اتخذ بعد تواصل مع الروس إذ أكد وزير الخارجية التركي أن الروس كان لديهم تساؤلات عن تطبيق الأتراك للاتفاقية وهو الأمر الذي قوبل بموقف تركي مؤكد للتطبيق الحرفي للاتفاقية. وبالنظر إلى أن تركيا أغلقت المضايق في عام 2008 عندما احتلت روسيا جورجيا فقد كان الموقف التركي أكثر تأثيراً على سفن الناتو التي كانت تريد المرور نحو البحر الأسود مما ساهم حينها بمنع تطور الأمور نحو التصعيد في البحر الأسود أكثر من كونه إجراءً تركياً ضد روسيا. ولعل هذا الموقف التاريخي يشير إلى محددات الموقف التركي أيضا.
وبالطبع لا تزال القيادة التركية في حالة انعقاد دائم فيما يتعلق بخياراتها تجاه التطورات الروسية الأوكرانية ولكن بشكل عام يمكن القول إن الموقف التركي الرافض رسميا للغزو الروسي لأوكرانيا معني بالحفاظ على العلاقات المتوازنة مع كل من روسيا وأوكرانيا وتفضل تركيا أن تبقى وسيطاً محتملاً يمكن أن ينجح بلعب دور إيجابي للوصول إلى تسوية بين البلدين، ولهذا رأينا حرص الرئيس أردوغان على الاتصال بالرئيس البيلاروسي لوكاشينكو لكي يناقش معه المفاوضات بين الوفدين الأوكراني والروسي في بيلاروسيا مؤكداً أنه سيواصل بذل الجهود لوقف هذه الحرب وإحلال السلام.
ستحافظ تركيا على تواصل مباشر مع الأطراف الدولية المعنية وخاصة قيادة الناتو والولايات المتحدة الأمريكية، حيث ناقش وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو الأوضاع مع وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن. ومع أن تركيا تقف أمام تحديات فهي تمتلك فرصاً مهمة إذ إنها الدولة الوحيدة في الناتو التي يمكن لروسيا أن تقبل بها وسيطاً، كما أن الرسائل التي ترسلها تركيا لا تخلو من التوازن بين الأطراف المتنازعة.
إن المعادلة التي تسير عليها تركيا تحافظ على المصالح التركية وعلى الاستقرار الذي لا يهدد أمن تركيا. وقد رسم الرئيس التركي خلال الفترة الماضية مسارات استقلالية استطاع من خلالها ترتيب علاقات تركيا مع الغرب والشرق، ولهذا لن تجازف تركيا بأي خطوات تخرب استقرار هذه المعادلة وستؤكد على استقلاليتها، بالرغم من الخلافات التركية-الروسية في بعض القضايا وبالرغم من وجود تعارضات استراتيجية تركية-روسية على المدى البعيد.
ومع أن تركيا قد لا تتردد في أخذ بعض الخطوات في حدودها الدنيا التي تعبر عن رفض الغزو الروسي لأوكرانيا، فإنها ستكون حذرة جداً في التجاوب مع أي ضغط عليها للانزلاق لمواجهة مع روسيا حالياً، وفيما تجد بعض الدول الغربية مثل ألمانيا حرجاً في المواجهة مع روسيا في بعض الملفات للحفاظ على مصالحها فإن هذا لا يجعل تركيا مضطرة إلى الانسجام مع كل توجهات باقي البلدان الغربية. وقد رأينا هذا على سبيل المثال في إغلاق المجال الجوي لهذه الدول في وجه روسيا. وقد كانت كلمة وزير الخارجية التركي في معرض حديثه عن تطبيق اتفاقية مونترو ذات مغزى حيث أكد على أن تركيا ستطبق الاتفاقية بشفافية، ولعل الكلمة تحمل رسالة أن تركيا ملتزمة بالاتفاقيات ولن تكون في خدمة مصلحة جهة على جهة أخرى.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.