الأمن البيئي.. سلاح صامت في أيدي المخربين
لقرون طويلة اقتصر تصورنا للأمن بين الكيانات السياسية والدول على مفهوم الأمن العسكري المحصور في نطاقي الحرب والسلام، وقد عزز من هذا التصور ما ساد في التاريخ من غلبة للنزاعات والصراعات الدامية بين الأمم للتنافس على مصادر الغذاء والطاقة والنفوذ.
أحد عمال الإطفاء في ولاية كاليفورنيا التي تشهد حرائق في غاباتها غير مسبوقة  (Reuters)

بعد الحربين العالميتين، أحدث المفكر البريطاني باري بوزان ثورة في مفهوم الأمن، وكان أول من استطاع توسيع نطاقه ليشمل خمسة حقول متمايزة هي الأمن العسكري والسياسي والاقتصادي والمجتمعي وأخيراً الأمن البيئي، واعتبر أن هذه النطاقات الخمسة مرتبطة بعضها ببعض، وتؤثر في نهاية المطاف على الأمن السياسي لأية دولة، بما في ذلك قوتها واستقرارها وقدرتها على تحقيق الرخاء والرضا الشعبي وقابليتها للتطور والازدهار.

لم يحظَ الأمن البيئي بكثير من الاهتمام من قبل القادة والسياسيين أسوة بغيره من الحقول الأمنية، فمن جهة بقي مفهوماً فضفاضاً تباينت فيه الرؤى والنظريات التي انتعشت في أوساط النشطاء البيئيين والمؤسسات الدولية غير الحكومية، وتراجعت في كواليس السياسة المحلية التي بقيت تنظر إليه كنوع من الترف الذي لا تُرى آثاره في المدى القريب، لا سيما في دول العالم الثالث التي تغرق في أزمات أكثر وضوحاً وإلحاحاً، وعلى الرغم من التحذيرات التي تُطلق سنوياً حول ظواهر بيئية خطيرة كالتلوث وارتفاع انبعاثات الكربون والاحتباس الحراري وشح المياه، فإن التجاوب الرسمي يبقى متواضعاً.

لكن خلال العقد الأخير تصاعدت ظاهرة احتراق الغابات والأحراش التي تأتي على عشرات ملايين الهكتارات سنوياً، وهي ظاهرة طبيعية في مجملها وتعد نتيجة مباشرة للأزمة البيئية التي يمر بها كوكبنا من الاحتباس الحراري و تغيرات الطقس والجفاف المتصاعد، هذه الحرائق وما يترتب عليها من خسائر فادحة دقت ناقوس الخطر لدى العديد من السياسيين لإيلاء المزيد من الاهتمام بالأمن البيئي، فهي مثال واضح على ما أكد عليه باري بوزان من ارتباط الأمن البيئي بنطاقات الأمن الأخرى الأكثر حساسية.

فحرائق الغابات تخلق تحديات جسيمة للأمن الاقتصادي للدول بما تخلّفه من خسائر في المحاصيل والثروة الحيوانية، وما تكلّفه من معدات وتكنولوجيا للإخماد، وتؤثر في الأمن المجتمعي بما تخلّفه من حالة السخط جرّاء خسائر الأرواح والممتلكات الخاصة، وكذلك تؤثر على الأمن السياسي من خلال تقييم المتضررين والمواطنين للاستجابة الحكومية لكارثة الحرائق، أضف إليه استغلال المعارضة لمثل هذه المواسم من أجل توجيه سهام الهجوم وأحياناً التحريض ضد غرمائها في السلطة.

ولأن احتراق الغابات والأحراش ظاهرة لها غطاء ومسبّبات طبيعية، فقد تلجأ جهات تخريبية لافتعالها مستفيدة من قدرة التستر وراء مسبّباتها الطبيعية، هذا الاستغلال ليس جديداً، فتاريخياً، استخدمت الحرائق المفتعلة كأداة للتخريب والترويع. خلال الحرب العالمية الثانية، أطلقت اليابان قرابة تسعة آلاف بالون هيدروجيني مزوّد بصاعق للاشتعال عبر المحيط الأطلسي، وصل منها 300 فقط إلى شواطئ الولايات المتحدة مسببة بعضاً من الحرائق التي روعت السكان ودمرت الممتلكات الخاصة.

وعلى الرغم من القدرة التدميرية الهائلة لمثل هذا السيناريو، والذي قد يصل إلى ما يوازي أثر قنبلة نووية كما أشارت دراسة أعدها الخبير العسكري الأمريكي روبرت بيرد، لا سيما في حال تضافر عنصر التخريب والافتعال مع صعوبة الأحوال الجوية التي تصبّ البنزين على النار، فإن سيناريو التخريب البيئي عبر افتعال الحرائق لم يحظَ كثيراً بالدراسة، خشية أن يكون حافزاً لجماعات وأفراد تمتلك رغبة التخريب والإرهاب.

وخلال حرائق الغابات التي اشتعلت في تركيا أواخر يوليو/تموز الماضي انطلاقاً من محافظة أنطاليا، برزت مؤشرات أولية على سيناريو تخريبي قد تكون لجأت إليه جماعة PKK الارهابية، التي تورطت في أعوام سابقة بمثل هذا السيناريو في مناطق محدودة، ولعل أبرز المؤشرات هي أن الحرائق اندلعت بالتزامن في ست محافظات، وأنها استهدفت مناطق سياحية حيوية فيها بعد 4 أسابيع فقط من الانفتاح التام والعودة للموسم السياحي بعد إغلاق دام أكثر من عام ونصف العام بسبب جائحة كورونا.

وقد ساهمت الرياح والجفاف والارتفاع في درجات الحرارة في انتقال هذه الحرائق إلى نقاط أخرى سكانية داخل هذه المحافظات لتصل إلى أكثر من 200 نقطة، وعلى الرغم من أن التحقيقات الرسمية لم تنته بعد إلى الجزم بكون الحرائق مفتعلة من قبل جهات تخريبية أو إرهابية، فإنها تبقى نظرية قائمة جرى التصريح والتلميح إليها من قبل عدد من الشخصيات الرسمية.

قد لا يكون التخريب البيئي مغرياً للجماعات الإرهابية، التي تفضل عادة ضرب المواقع الحيوية المزدحمة لإيصال رسالة ترويعية حادة للدولة والمواطنين على السواء، وخلق حدث أمني صارخ، لكنها تبقى خياراً للجماعات الإرهابية التي لها أذرع سياسية مهتمة بالتأثير الصامت والمتدرج، لكون هذا النوع من التخريب أداة رخيصة من حيث الكلفة الاقتصادية، ورخيصة أيضاً من حيث الكلفة السياسية، فهي أسهل بالتنفيذ والتخفي خلف المسببات الطبيعية دون أن تتحمل أية جهة المسؤولية السياسية والأخلاقية عن ارتكابها، إلى جانب أنها صارت اليوم سلاحاً لا يؤثر فقط على اقتصاد الدول، إنما يسعى لضرب النسيج الاجتماعي والاستقرار السياسي، سيما لو ترافقت مثل هذه الحرائق مع حملات تحريض سياسي يتم فيها التقليل من الجهود الرسمية في احتواء النيران والإنقاذ، والانطلاق منها نحو التشكيك في قدرة وأهلية النظام السياسي ككل، وهذا ما يظهر في سلوك بعض من الشخصيات السياسية المعارضة التي حاولت توظيف أزمة الحرائق في تركيا لمصلحتها دون أدنى اعتبار للخسائر البشرية والمعنوية التي خلفتها هذه الكارثة.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي