جاءت هذه الزيارة بناء على دعوة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للمشاركة في الاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين. وقد حملت هذه الرسائل معاني سياسية في تأكيد أهمية العلاقات بين أنقرة وطرابلس، بخاصة في ظل المخاض الجديد التي تمر به ليبيا بعيد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة دبيبة كأحد أهمّ مخرجات منتدى الحوار السياسي الليبي.
هذه الزيارة لم تكُن الأولى التي يقوم بها دبيبة لتركيا، فقد سبق أن قام بزيارة بُعيد انتخاب القائمة التي ترأسها من قبل منتدى الحوار السياسي الليبي، والتقى وقتها الرئيس التركي أردوغان في زيارة أعلن عنها لاحقاً. كما كان دبيبة قد أدلى بتصريحه الأول بعيد انتخابه لوكالة الأنباء التركية مؤكداً أهمية التعاون الثنائي، في إشارة إلى رغبته باستمرار التعاون بين أنقرة وطرابلس. لكن هذه الزيارة هي الزيارة الرسمية الأولى التي يقوم بها دبيبة لأنقرة، منذ تسلمه مهامه رسمياً في 16 من مارس/آذار الماضي، فيما جاءت بعيد جولة خارجية له شملت الإمارات العربية المتحدة منافس تركيا الإقليمي في الملف الليبي. كما أنها الزيارة الأولى على هذا المستوى الواسع لحكومة الوحدة الوطنية الليبية.
الزيارة التي امتدت على مدى يومين ساهمت في تعزيز التعاون الثنائي من خلال عديد من اللقاءات الثنائية وعلى رأسها لقاء مجلس التعاون الاستراتيجي. وقد أثمرت هذه اللقاءات التوقيع على حزمة من الاتفاقيات. فقد تم التوقيع خلال الزيارة التي قام بها دبيبة على اتفاقيات للتعاون في مجال إنشاء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية، وتوسيع مطار طرابلس الدولي، وبناء مركز للتسوق في طرابلس، التي يُتوقع أن يتم تنفيذها من قبل شركة "رينسانس" التركية للإنشاءات، إذ تتطلع الحكومة الليبية إلى أن تساهم هذه المشاريع في حلّ مشكلات الكهرباء المزمنة في ليبيا. هذا بالإضافة إلى الاتفاق على التعاون في المجال الإعلامي بين أنقرة وطرابلس.
لكن يمكن القول إن الرسائل السياسية التي حملتها الزيارة كانت أهمّ من اتفاقيات التعاون التي تم توقيعها في مختلف الجوانب، على أهمية هذه الاتفاقيات؟ أهم الرسائل السياسية التي أكدتها الزيارة هي التزام الجانب الليبي استمرار التعاون مع الحكومة التركية في الجوانب كافة، وعلى رأسها الجانب الأمني والعسكري، إذ يمثل التزام الطرف الليبي الاتفاقيات الثنائية الموقعة، بخاصة مذكرتا التفاهم اللتان وُقّعتا في نوفمبر 2019 حول ترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني، حجر الزاوية في الاستراتيجية التركية في كل من ليبيا وشرق المتوسط. وقد صرح الرئيس التركي أردوغان في المؤتمر الصحفي المشترك بأن الاتفاق البحري "يضمن المصالح الوطنية ومستقبل البلدين"، وهو التوجه الذي أكده دبيبة في ذات المؤتمر بقوله إن هذه الاتفاقيات "تقوم على أسس صحيحة وتخدم مصالح بلدينا".
هذه الرسائل السياسية التي حملتها الزيارة وصلت إلى مختلف الأطراف، إلا أنها كانت موجهة بشكل رئيسي إلى الطرف اليوناني، الذي أعاد مؤخراً افتتاح سفارته في ليبيا بعد سبع سنوات من القطيعة، إذ كان وزير الخارجية اليوناني نيكوس دندياس، الذي يقوم بزيارة لبنغازي، قد دعا في الأيام السابقة إلى إلغاء مذكرة التفاهم حول ترسيم الحدود البحرية، مدّعياً أنها غير قانونية. هذا في الوقت الذي صرح فيه وزير الخارجية بأن اليونان "عادت" إلى ليبيا، وذلك بالتوازي مع خطوات لتعزيز علاقات أثينا مع الفاعلين السياسيين في الشرق الليبي، إذ دعا وزير الخارجية اليوناني عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي، الذي يتخذ موقفاً مناوئاً لتركيا، إلى زيارة أثينا.
كما أن الثقل السياسي لزيارة تركيا يمكن ملاحظته من خلال مقارنة الزيارة التي قام بها دبيبة لأنقرة بزيارته كلّاً من الإمارات والكويت، وقبلهما مصر. فقد كان دبيبة قد زار كلّاً من الكويت وبعدها الإمارات في الأسبوع الماضي، في زيارة أثارت نوعاً من القلق في المنطقة الغربية، فيما كان دبيبة قد زار مصر والتقى الرئيس السيسي بعيد تكليف حكومته. لكن في مقابل الوفد العريض والمجالات المتنوعة التي شملتها زيارة دبيبة لأنقرة، والتي يمكن وصفها بأنها استراتيجية على المستويات كافة، فإن زيارته لبقية العواصم العربية كانت قصيرة واتسمت بالطابع البروتوكولي، وهدفت إلى طمأنة الأطراف الخليجية والعربية وضمان دعمها لمسار الحكومة الحالي.
وعليه فقد مثلت الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الليبي مع الوفد المرافق رسالة مهمة للأطراف كافة، وعلى رأسها الطرف اليوناني، بأن التعاون بين أنقرة وطرابلس يمضي قدماً إلى الأمام. وعلى عكس ما قد ترجو بقية الأطراف وعلى رأسها أثينا، فإن محاولات الضغط على حكومة الوحدة الوطنية للحد من علاقاتها مع أنقرة، ومساعيها لتعزيز علاقاتها مع الأطراف المناوئة لأنقرة، سيساهم في دفع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، لترسيخ علاقاتها أكثر مع تركيا. وفي ذات السياق، فإن محاولات حفتر للبقاء كفاعل سياسي، كما هو واضح من خلال نشاطاته الأخيرة في بنغازي، ستدفع حكومة الوحدة الوطنية الليبية أو أي جهة حاكمة في طرابلس إلى تعزيز علاقاتها مع أنقرة. لذلك فمن الواضح أن العلاقات بين أنقرة وطرابلس المبنية على المصالح المشتركة قد تطورت إلى نقطة اللا عودة ضمن التوازنات الحالية.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.